تقدم الحديث بإسهاب عن معنى الآية الكريمة في عدد سابق، كما تقدم أيضا النموذج الأول من تجليات تلك الرحمة في السيرة العطرة للنبي الكريم ، وبحول الله تعالى سأحاول الوقوف عند نماذج أخرى تتجلى فيها الرحمة النبوية:
النموذج الثاني: موقفه من أهل الطائف: لم يقصر أهل الطائف في الإساءة للنبي وإذايته، بل بذلوا قصارى جهدهم، واستخرجوا كل طاقاتهم، وحشدوا لذلك كل ما يمكن حشده، وأغروا به سفهاءهم، وأخرجوه من ديارهم طريدا، بعدما أسمعوه كل عبارات الاستهزاء والسخرية والتكذيب، وذلك بعد ما قصد ديارهم يرجو نصرتهم له، وحمايتهم لدعوته، لكنهم كذبوا وعاندوا، واستهزأوا وجحدوا، فكان يومهم ذاك أشد يوم مر على النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، في حياته، لم يبلغه في شدته يوم أحد الذي كسرت فيه رباعيته، ولا يوم الأحزاب الذي أحاط به الأعداء من كل جهة، ولا في أي يوم من غيره، ولنستمع للنبي يصف هذه الشدة لزوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد ورد في الصحيحين عن عائشة أنها قالت للنبي : هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال، ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا».
ولم يبين هنا سبب همه وغمه، لكن مرويات كتب السير تبين ذلك، فقد جاء في سيرة ابن هشام: “لما انتهى رسول الله إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود بن عمرو بن عمير، وحبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم رسول الله ، فدعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة -ينزعه ويرمي به- إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا. لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله من عندهم وقد يئس من خبر ثقيف، وقد قال لهم -فيما ذكر لي-: إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني، وكره رسول الله أن يبلغ قومه عنه، فيذئرهم -يثيرهم ويجرئهم- ذلك عليه. فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجؤوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حبلة -شجرة- من عنب، فجلس فيه. وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف” وتضيف الروايات أنه في هذا المقام توجه بالدعاء إلى الله تعالى، فجاءه الملك بعد دعائه وإلحاحه في المسألة، والذي ينبغي الوقوف عنده من خلال هذا النص ما يلي:
أولا: طريقة رد المكذبين: فالأول يرد بسخرية واستهزاء، وتعال وتكبر، ويزعم أنه ينزع ثوب الكعبة –وهي أقدس مقدس عند العرب حينها- مبالغة في الإنكار والتكذيب، قاطعا كل محاولة للنقاش، والثاني يتعجب تعجب المنكر المستبعد، كيف أن الله يرسل هذا الفقير الذي عاش يتيما في مكة، لا مال له ولا حسب ولا نسب، ولا شيء له من معايير الرقي في نظره، مما يؤهله لهذا المنصب، أما الثالث فكان رده ردا -دبلوماسيا- بمكر ودهاء، لا يريد أن يورط نفسه في شيء، وهذه الأساليب هي التي ما زالت تتبع منذ ذلك الحين، من كل المكذبين والمعاندين، فإما أن يقطعوا باب النقاش، ويسدوا في وجه دعاة الخير كل سبل الإقناع، وطرق الحوار البناء، وإما أن يستهزئوا ويسخروا، وينتقصوا غيرهم، وإما أن يسلكوا مسلك المكر والدهاء والمناورة.
ثانيا: رد الرسول ، وكيف أن الملَك جاءه يأذن له في أمره بما شاء، بل يقترح عليه لو شاء أن يطبق عليهم الأخشبين، لكن رحمة النبي الكريم، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، تغلب انتقامه لنفسه، وحاشاه –بأبي وأمي – أن ينتقم لنفسه، وهو الذي سماه الله تعالى بالرءوف الرحيم، بل يسأل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ويوحده، وقد حقق الله رجاءه، وجاء أهل الطائف بعد سنوات مسلمين تائبين مبايعين، والحمد لله رب العالمين.
ذ. عبد الصمد احسيسن