يصعب أحيانا أن أتحدث عن شخصية عبد الله الطيب دون أن يكون لشخصي نصيب من ذلك الحديث. وحديث (الأنا) مبغض إلى الناس، ولا هو محبب إلى نفسي، ولكن لا مناص أحيانا، إذا كان المراد تجلية فضيلة المتحدَّث عنه، لا المتحدِّث. وما أريد بيانه هنا هو وجه من وجوه شخصية عبد الله الطيب، ومن ذلك كرمه وكرم زوجته (جوهرة)، المرأة الإنجليزية التي كانت سندا له في كل مراحل حياته، وكانت وراء عدد من مشاريعه العلمية. ومن مظاهر الكرم هذه الحادثة: كان من عادة الطلبة الباحثين، عندما يناقشون رسائلهم، دعوة أعضاء لجنة المناقشة، ومن يرون معهم، إلى حفل غداء أو عشاء في بيوتهم. ولما كنت مقيما في وجدة، ومناقشة رسالتي الجامعية في فاس، فاجأني الدكتور عبد الله الطيب بحدث جميل، كما فاجأ عددا من زملائي بكلية الآداب بوجدة، ممن أصروا على حضور المناقشة، باعتبار رسالتي هي أول رسالة يناقشها عضو هيئة تدريس بوجدة. كانت المفاجأة التي أعدها لي أستاذي المشرف هي أنه هو الذي أقام حفل عشاء في بيته بالمناسبة، بدلا من صاحب الرسالة، ودعا إلى الحفل أعضاء لجنة المناقشة، وعددا من أساتذة كلية الآداب بفاس، بالإضافة إلى جميع الأساتذة الذين حضروا من كلية الآداب بوجدة. وكان العشاء مائدة مفتوحة، يخدم كل واحد نفسه بنفسه، ومع ذلك كان الدكتور عبد الله الطيب وزوجته جوهرة حريصين على خدمة الضيوف، ولو بالترحيب والابتسامة. كان ذلك شيئا رائعا أكبره كل الحاضرين، وبقي مدار حديثنا زمنا. وبطبيعة الحال، فإن الجلسة -وكان الذين حضروها علماء وأساتذة- لم تخل من طرائف وفوائد علمية.
بالإضافة إلى هذا الجانب، هناك جوانب أخرى من شخصية عبد الله الطيب قد تجليها السطور الآتية.
كنا في جلساتنا، أنا والدكتور عبد الله الطيب، نخوض في أمور الأدب، وربما جرنا الأدب إلى السياسة والاجتماع، ومثال ذلك، أننا كنا نتحدث عن الحرب العراقية الإيرانية التي كانت مشتعلة آنذاك، وكانت أسماء بعض الأماكن تدور على الألسنة، إما محتفظة باسمها العربي، وإما مستجلبة من اللسان الفارسي، مثل (المحمرة) التي يسمها الفرس (خرّمشهر). ولكنّ مكانا بعينه كان الخلاف في اسمه لا يتجاوز حرفا واحدا، وهذا المكان هو (الأهواز)، الذي يصر بعض الغافلين من العرب على تسمية (الأحواز). و(الأهواز) هو الاسم الذي عرفه به العرب منذ القديم. وأثناء الحديث قال لي رحمه الله: كان جرير رحمه الله أصدق وأبين عندما قال:
سيروا بني العمّ فالأهواز أرضكمُ
ونهر تيرى فلم تعرفكم العربُ
و(بنو العم) قبيلة. نفى عنهم الشاعر الانتماء إلى العرب. ومعلوم أن الصراع ليس بين العرب والعجم فحسب، بل بين القيسية واليمانية، كان زمن جرير قد بدأ يظهر ثم يستفحل ثم ينخر في كيان الدولة.
وذات مرة أردت أن أعرف طريقته في إعداد الجذاذات، فقد كان لعلمائنا صناديق ينظمون فيها الجذاذات التي تدون فيها المعلومات والشواهد. وقد كان للإمام مالك صندوق يضم تلك الجذاذات. فسألته مباشرة، فابتسم، مشيرا إلى رأسه، أي إنه لا يعتمد على غير ما وعته الذاكرة من الصغر. وهو في الحفظ ظاهرة نادرة. فإذا احتجت إلى معرفة شيء، من شاهد أو خبر أو غير ذلك، قال لك: هو عند فلان، في كتاب كذا، في باب كذا، وأظنه في صفحة كذا.. فإذا راجعت الأمر وجدت أنه لا يكاد يجاوز المكان الذي دلك عليه.
ومرة أهداني كتابه: (مع أبي الطيب)، وهو مولوع بهذا الشاعر. وجدت في هذا الكتاب شخصية عبد الله الطيب التي أعرفها، وهو أنه يعتمد في إصدار الأحكام على نباهة القارئ، ولا يكثر الجدل، وكأنه يستحضر قول أبي الطيب:
أبلغ ما يدرك النجاح به
الطبع وفي التعمق الزلل
فمن المعلوم أنه أثيرت حول المتنبي قضية (قرمطيته)، وكان أول من أثارها هو المستشرق الفرنسي ماسينيون، ثم تابعه فيها زميله بلاشير، ثم أشاعها في اللغة العربية طه حسين، ثم انقسم الناس بين مثبت لها وجاحد. وكان مما استند إليه القائلون بقرمطية الشاعر قوله:
بكلّ منصلت ما زال منتظـــــــــــــري
حتى أدلت له من دولة الخدم
شيخ يرى الصلــــوات الخمس نـافلة
ويستحل دم الحجــــاج في الحرم
وهو من أبيات تأولها القدماء قبل المحدثين، حتى ذهب ابن القطاع إلى أنه لا يتحدث هنا إلا عن سيفه، وما من شيخ هناك. إلا أن الظاهريين ربطوها بدموية موصولة إلى الباطنية.
وبجرأة عجيبة قطع المستشرقون وتلامذتهم بأنّ الأبيات ناطقة بالانتماء القرمطي للشاعر.
فلما جاء عبد الله الطيب حسم القضية، في كتابه هذا، بعبارة موجزة. قال: (كان أبو الطيب ذا مزاج قرمطي)، فلم يتهمه بأنه من القرامطة من جهة، ولاسيما أن في شعره هجاء للباطنية عموما، وعلل ما يظهر في شعره من شهوة إلى الدم من جهة أخرى، ثورةً في وجه الأعاجم الذين شرعوا يعملون، في القرن الرابع الهجري، على هدم كل ما هو عربي، وأنه لا سبيل إلى مواجهة الدم إلا بالدم، وذلك هو ما سماه عبد الله الطيب: (المزاج القرمطي). وإن ذلك لهو الصواب، والله أعلم.
يلتقطها أ.د. الحسن الأمراني