صدر للكاتب المغربي “ربيع السملالي” كتابٌ موسومٌ بــ: (يا بُنيّ)، عن دار المازري، بتونس، سنة (2016)، في طبعة أنيقة تسر القارئ، من مائة وست صفحات؛ يقول كاتبُه في بَوَاعِثِ تأليفِه: “كنتُ أذعتُ بين الناس في بعض الصُّحف، والمواقع التّواصلية، سلسلة تربوية بعنوان: “يا بُنيّ”.. اجتهدتُ في تدبيجها قدرَ المستطاع، أخلصتُ فيها نصحاً وإرشادًا وتوجيهًا لابني بل لأبنائي ولكلّ من تصل إليه كلماتي من أبناء وبنات المسلمين.. فلاقت استحسانًا كبيرًا يومئذ بين القُرّاء، وكنت كلّما أذعتُ جزءًا قالوا: هل من مزيد، فهذه النّصائح نحن أحوج النّاس إليها في هذا الزّمن الموحش الذي نحيا في أحضانه بملل، فحملني كلامُهُم هذا ودفعني دفعًا كي أجتهد أكثر في كتابة هذه النّصائح التي تعلّمتها طيلة ثلاثة عقود ونيّف بين الكتب والنّاس.. وحين توقّفت عن النّشر، أو بتعبير أدقّ حين انتهيتُ من كتابة هذه السلسلة، أشار عليّ بعضُ الأحبّة بجمعها في رسالةٍ لطيفةٍ ليستفيد منها قرّاء آخرون لم تصافحها أعينهم من قبلُ، فوعدتهم بأن أفعل، لكن طال عليّ الأمد فتكاسلتُ ولم أفعل، حتّى إذا كان صيفُ هذه السّنة (2016م) وصدر كتابي (نبضات قلم) بطبعته الفاخرة، وجدتني متحمّسًا للنّظر في هذه السلسلة ومراجعتها ودفعها إلى دار الإمام المازري” (مقدمة الكتاب، ص: 11).
هذا، وقد تَقَصَّدَ الكاتبُ “ربيع السملالي” بلهفة محمومة كشكولا من النصائح، حيث رمى بسهمه مُخْتَلِفَ الموضوعات التي تشكل اهتمام الصّغار. وإذا كانت هذه النصائحُ قد عَلَتْهَا نَبْرَةٌ قويّةٌ صارمةٌ؛ فإن ذلك من قبيل الصّرامة المحبوبة، صرامةِ الأب الحنون، الخائف على ابنه من الضياع، في زمن كثرت فيه الموبقات، والملاهي؛ غير أنه في كثير من الأحيان سعى الكاتب الناصح إلى تمرير نصائحه بأدب جمٍّ، يحسس قارئه بحرص الأبوة، ورأفة الوالد القدوة. فيضع بين يدي ولده خبرته في الحياة حتى يسير بأمن وأمان، وهو يركب سفينة المستقبل.
والمتأملُ للكتاب يجد صاحبه يستشهد كثيرا، بآيات من القرآن الكريم، وأحاديث من السيرة النبوية الشريفة، وأبيات من الشعر العربي القديم، وأقوال الأدباء والمفكرين، من أجل تعضيد نصائحه، وإلباسها حللا موشية، حيث يمرر هذه الجواهر والدرر بلغة سليمة، خالية من الشوائب، إذ يُلبس المعاني ويزينها بالعذب من الألفاظ، والفصيح من كلام العرب. فهو يهشم أباريق اللغة، ويطوع حروفها على قدر عقول أبنائه الصغار، لينسج جملا باذخة ماتعة، تطرب النفس، وتخاطب الوجدان، وتقوّم السلوك، وتهذب وتشذب أغصان النشء، الذي لا تزال في نفسه حاجةٌ إلى أبيه وأمه التي تأويه. فيسري دبيب النفس الإسلامي في عروق هذه التوجيهات والتنبيهات التي حبّرها بتأنٍّ وتؤدة؛ فما أصعب أن تؤلف للصغار من أبناء الأمة؛ فالكاتب “ربيع السملالي” يدرك هذه الصعوبات، فينهج منهجا ونهجا واضحين، حيث يجوع اللفظ ويشبع المعنى، بجميل الأفكار، ورائد الخواطر، فهو لا يثقل كاهل القارئ الصغير (من الصَّغَار، لا من الصِّغر)، بحشو الكلام، والكلام من أجل الكلام؛ وإنما يطرّز اللغة، ويرقّع الألفاظ، بخيط الأبوة، وعطف الأمومة؛ ويُمَهِّرُ النَّشْءَ على مصاعب ونوائب الحياة، فيؤهله بخارطة طريق تؤطر أهدافه، وآماله، فيقول الكاتبُ “ربيع السملالي” مخاطبًا ابنه: “كنْ عاقلاً…أتدري ما العقلُ؟ أن تكف أذاك عن المسلمين، ولا تتناول أعراضَهم بالثّلب، ولا تتبّع عوراتهم، وتفرح بزلاّتهم، ولا ترضَ بما لا ترضاه لنفسك وأهل بيتك.. وإيّاك أن تكونَ مفتاحًا في الشّر رأسًا في إشعال الفتن والتّحريش بين إخوانك، وملء الصّدور بالعداوة والبغضاء وما إلى ذلك من الأفعال التي هي من خصائص إبليس.. باختصار كن في معزل عن البشر ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فإذا لم تستطعْ نفعهم فلا تكن سببًا في ضرّهم.. الزم بيتك وابكِ على خطيئتك واستغفر لذنبك وللمؤمنين، وقل: ربّ أدخلني مُدْخل صدق وأخرجني مُخْرج صدق واجعلْ لي من لدنْك سلطانًا نصيرًا…” (يا بُنيّ، ص: 76).
وتقول الأستاذة “بيان محمّد علي الطنطاوي” في تقريظ الكتاب: “ربيع له نكهة خاصة؛ لأنّ له شخصيّة مُتفرّدة، ليس كأيّ ربيع عرفته أو عهدته، رياحينه ذات طابع مُتفرّد يَحتار متابعه كيف يُصنّفه؟ أهو ناقد أم أديب أم مؤرّخ للأدب، له في كلّ ميدان جولة، وعنده من كلّ بستان زهرة، اختياراته تدلّ على عقله، ونقده يدلّ على وعيه، ومؤلفاته تدلّ على قناعاته ومعتقده، وصدّه لمخالفه يدلّ على صدقه وجرأته” (يا بُنيّ، ص: 10).
إن كتاب “ربيع السملالي” تأملات هادئة في زمن الضجيج، وتوجيهات رائدة يحتاجها كل ابن من أبناء أمتي؛ كي تفتح أعينهم على الأفق البعيد، والمستقبل المديد، لرسم خطوطهما، بخطى ثابتة، لبناء شخصية متوازنة مؤمنة بالاختلاف والتنوع، ومتمسكة بكلام الله الفريد، وكلام رسول الله السديد، ومحافظة على قيمها، ونسيج لغتها العربية.
والكتب في مثل هذا الطّراز كالخيل قليلة –كما قال أبو الطيب المتنبي- ومن نماذج ذلك ما كتبه الأستاذ “فاخر عاقل” في رسالته المفيدة (رسالة إلى ابني) التي نشرها على صفحات مجلة “العربي” الرائدة، وكتاب الأستاذ “أحمد أمين” (ولدي)، وكتابا (يا ابني)، و(يا بنتي)، للشيخ “علي الطنطاوي”، وكتاب (يا بني، موعظة لقمان لابنه)، تأليف “عويض بن حمود العطوي”، وكتاب (يا بني أحب وطنك)، لمؤلِّفه “حسن عمر القثمي”، وكتاب (من والد إلى ولده)، للأستاذ “أحمد حافظ عوض بك”، حيث نقتطف منه هذه العبارات والإشارات؛ لعلها تفيدك أيها الولد الحبيب: “اعلم – يا بنيَّ – أن الحياة قصيرة، والعلم طويل، وأن اللغة العربية بحر خضمّ لا ساحل له، وأنت لو انقطعت لها، طول حياتك، جاعلاً بغيتك النبوغ فيها دون سواها، لاقتضى منك أن تترك ما عداها من العلوم والمعارف اللازمة لفوزك في الحياة. ولكي تكون لغوياً عربياً أو شاعراً كبيراً، يلزمك أن تنقطع إلى اللغة العربية دون سواها، فتبدأ بحفظ القرآن الشريف والحديث وكتب اللغة المتعدِّدة، وتطَّلع على شعر شعراء الجاهلية وتحفظ أشعارهم، وتُتْبع ذلك بشعراء الطبقة الأولى من المخضرمين، وتقف على أيام العرب لتفهم بها ما يقع في أشعارهم منها، وكذلك المهمّ من الأنساب الشهيرة والأخبار العامّة، والأخبار الخاصّة، ثم تنقطع إلى مادة اللغة ومعجماتها، بحيث لا تفوتك منها شاردة ولا واردة، وتجيد دراسة النحو والصرف والاشتقاق، وتتبع اللغة في تطوُّراتها، وإن زدت في ذلك رجعت إلى تاريخ اللغة وأصولها في اللغات القديمة، كالعربية والحِمْيَرية والنبطية والفارسية. ودون ذلك خرط القتاد، وإضاعة العمر، ولا أقول فيما لا فائدة فيه؛ فكل اشتغال بعمل جدّي له فائدة تُذكَر، بل أقول فيما لا يؤهِّلك للفوز والنجاح الصحيح في العصر الجديد الذي أنت مقبل عليه، ولكلّ زمان أحكام، ولكلّ عصر تربية واستعداد، والعالم جهاد وجِلاد، (من ولد إلى ولده، رسائل في التربية والتعليم والآداب، كتاب الدوحة (64)، س: 2016، ص: 49).
وأحب أن أختم هذه الوقفة الخاطفة، بما قاله الكاتبُ “ربيع السملالي” في كتابه العاطر الذي وجهه لكل قارئ صغير وامق مشغوف بدفء الأبوة: “يا بُنيّ كلمة ناعمة، تحمل بين حروفها الرّحمة والشّفقة، ونداء جاء كثيرًا في كتاب الله الخالد، لذلك اخترته في هذه السّلسلة التي أرجو الله أن ينفع بها كلّ من تصل إليه، والتي أسديتُ فيها نصحي الخالص إلى ابني بل أبنائي، بل أبناء المسلمين جميعًا.. هذا النّصح المُستمدّ من توفيق الله لي أوّلا ثمّ من تجاربي الطّويلة في الحياة بين الكتب والنّاس ولستُ أزعمُ أنّي مبرّأ من كلّ ما ذكرت في هذه السّلسلة من عيوب، كلاّ بل أنا أوّل المذنبين، وهذه النّصائح أنا أولى النّاس بالعمل بما جاء فيها ونعوذ بالله أن نرى أنفسنا فوق الجميع، أو أن ننظر إليها كما لو كنّا ملائكة لا نخطئ ولا ينبغي لنا أن نخطئ” (الوجه الخلفي للكتاب).
محمد حماني