إننا لو سلطنا أشعة التأمل والنظر العميق على ثنائيات الوجود، لتبين لنا بأجلى ما يكون الجلاء، أن ثنائية الموت والحياة تتربع على عرش تلك الثنائيات جميعا، لأمر بسيط وجلي أيضا، يكمن في أن هذه منبثقة عن تلك. فلو أخذنا على سبيل المثال إحدى أبرز الثنائيات وأكثرها حضورا على مستوى المشهد الإنساني على هذه الأرض، وهي ثنائية الإيمان والكفر، لوجدنا أنها تدخل في ما صدق ذلكم الحكم، بل إنها تمثل في مستوى من مستوياته المفهومية داخل الحقل الدلالي للتصور الإسلامي للوجود تماهيا في المعنى، إذ إن الإيمان يعادل الحياة في ذلك التصور أو المنظور، بل ويؤدي إلى أعظم حياة في دار الخلود، مصداقا لقوله تعالى: وإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِىَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُون(العنكبوت: 64)، بينما يعادل الكفر الموت، بل ويؤدي إلى أعظم شقاء، في وضع لا هو بالحياة ولا هو بالموت، مصداقا لقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور (فاطر: 36). ويقول الله سبحانه وتعالى فيما يجسد الحقيقة السالفة الذكر، أي التماهي بين الحياة والإيمان، وكون ضد هذا صنوا للموت والعدم: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (الأنعام: 122)، ويقول الرسول : «مثل الذي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» (متفق عليه).
وانطلاقا من هذه الحقيقة الكبرى التي تمثل دعامة أساسية لرؤية الإسلام الفلسفية للكون والحياة والإنسان والمصير، يمكننا أن نقول، بأن مقولة جدلية الحياة والموت -وهو تعبير أبلغ دلالة في سياق هذا المقال والهدف المقصود منه- يمكن أن تمثل الإطار الفلسفي الأوسع الذي يمكن أن تعالج على صعيده أعمق القضايا والإشكاليات التي تواجه الإنسان في خضم هذا الوجود، اعتبارا لما يتيحه من إمكانيات على مستوى المفاهيم، ومن غنى في آليات استثمارها في مجال الفهم والتمثل والتطبيق، بما في ذلك إمكانية المقارنة والموازنة والترجيح، سواء كان ذلك في نطاق الواقع المشهود، أو نطاق تجارب الذين خلوا من قبل.
إن أول شيء يثمره التموقع في إطار هذه الجدلية هو الإيمان بقداسة الحياة وحرمة الأحياء، انطلاقا من كون الحياة والموت من خلق خالق الموت والحياة، وهو ما يتضمنه قوله : الَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ (الملك: 2). فالله هو الكفيل جلت قدرته بالإحياء والإماتة في صورهما المتعاقبة وفي كلا معنييهما المادي والمعنوي: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (البقرة: 28). فمن الحمق والخبال، ومن الجور والعدوان، أن ينزلق الإنسان في غفلة عن هذه الحقيقة المضيئة إلى مهاوي التطاول على ما هو من اختصاص الله جل جلاله، فيقترف جريمة الاغتيال لبنيان الله في أي شكل من أشكال ذلك الاغتيال.
وإن من شأن رسوخ هذه الحقيقة في وجدان الإنسان المسلم ضمن نسق القيم العقدية، أن تنفخ فيه روح الشجاعة واليقين في مجالدة صروف الحياة، والتحلي بالصبر والاحتساب في تلقي شتى صنوف المصائب والبلاء، في سبيل بلوغ أهدافه الكبرى في الحياة، لأنه يعلم علم اليقين أن موته رهين بأجل لا يقدم ولا يؤخر. يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًا (آل عمران: 145). كما أن من شأن حضور تلك الحقيقة الدائم في وعي المسلم أن يحمله على الاحتراس من ركوب الظلم واقتراف المعاصي، بل وإلى ركوب الصعاب دفاعا عما يؤمن به من مثل ومبادئ، والمنافحة عن قضايا الإنسان العادلة في خضم التدافع بين الحق والباطل، ويندرج هذا السعي الجريء، من منظور الإسلام وجهازه المصطلحي الدقيق، في سياق مفهوم الجهاد الحق الذي ينزه، وفق ضوابط صارمة، من أي شكل من أشكال العبث والارتجال، فالجهاد في حياة الأمة المسلمة وفق شروطه الحقة، هو فرصة لصيانة الحياة الكريمة للأمة المسلمة، ولمن يرتبط بمواثيقها ويدخل في حماها، وفي التخلي عنه ارتماء طوعي أو قسري في أحضان حياة ذليلة هي في محصلة أمرها أمر من أي شكل من أشكال الموت والعدم.
إن مما يكشف خطورة جدلية الموت والحياة بالمفهوم الفلسفي الآنف الذكر، أن من يتحركون إما خارج دائرته وضوابطه، أو في غفلة عن مقتضياته والتجاوب العميق معه من منطلق الإيمان والانقياد، يسقطون في أشنع الجرائم والموبقات، والتي على رأسها العدوان على الأنفس والأعراض والأموال، وعلى كل مظهر من مظاهر الوجود.
إن الموت، انطلاقا مما سبق، قد يكتسي مظهر الحياة في أبعادها المشرقة، اعتبارا لكونه وقودا يسرج به طريق الحياة، وخزانا يمدها بأنفع الزاد وأقوى العتاد، في حين أن الحياة في أوضاعها الكئيبة الرتيبة في كنف البؤس والمذلة والهوان، تعتبر في عرف العقلاء والحكماء في مقام الموت الذي تنتفي معه مظاهر الحركة والإحساس، إلا في أشكالها البليدة التافهة، والخالية من أي معنى، إلا معنى التلاشي والاندثار.
وصدق الله القائل: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (ق: 19).
د. عبد المجيد بنمسعود