لا شك أن التعثر والتأخر الذي يعرفه تشكيل الحكومة المغربية الثانية بعد إقرار الدستور الجديد لسنة 2011، أرخى بظلاله على المشهد السياسي في البلاد منذ تكليف رئيس الحزب الذي تصدر نتائج الانتخابات التشريعية بتاريخ 7 أكتوبر 2016 بتشكيل الحكومة.
وإذا كان هذا التعيين أمرا عاديا بحكم أنه ينسجم مع الدستور الذي يقر في الفصل47 منه: أن “الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها، ويعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها”. فإن التجاذبات التي وقعت بين من له الحق في دخول الحكومة ومن له حق الاعتراض أو قبول التحالف، أدى إلى توقف المشاورات من حين لآخر، تارة بسبب انتظار انعقاد هيأة من الهيئات الحزبية المعنية بالمشاورات، وتارة أخرى بسبب ارتهان قرارات بعض الأحزاب السياسية بقوى أخرى اتخذت معها تحالفا مطلقا بالدخول إلى الحكومة سوية، أو الخروج منها سوية؟؟…
فما هي الخيارات الدستورية والقانونية لتشكيل الحكومة؟ وكيف يمكن تجاوز حالة تعثر المفاوضات بين الأحزاب إزاء تشكيل الحكومة؟ وما هي البدائل الممكنة من الناحية الواقعية لتجاوز حالة التوقف التي تعرفها المشاورات التي تسبق تشكيل الحكومة؟…
وقبل تحليل هذه الأسئلة لا بأس من التوقف عند اختصاصات المجلس الحكومي وصلاحيات رئيس الحكومة في الدستور المصادق عليه في يوليوز 2011.
أولا- صلاحيات رئيس الحكومة واختصاصات المجلس الحكومي:
ينص الفصل 92 من الدستور على أن مجلس الحكومة يتداول تحت رئاسة رئيس الحكومة، في القضايا والنصوص التالية :
- السياسة العامة للدولة قبل عرضها على المجلس الوزاري.
- السياسات العمومية.
- السياسات القطاعية.
- طلب الثقة من مجلس النواب، قصد مواصلة الحكومة تحمل مسؤوليتها.
- القضايا الراهنة المرتبطة بحقوق الإنسان وبالنظام العام.
- مشاريع القوانين، ومن بينها مشروع قانون المالية، قبل إيداعها بمكتب مجلس النواب دون إخلال بالأحكام الواردة في الفصل 49 من هذا الدستور.
- مراسيم القوانين.
- مشاريع المراسيم التنظيمية.
- مشاريع المراسيم المشار إليها في الفصول 65 (الفقرة الثانية) 66 و70 (الفقرة الثالثة) من هذا الدستور.
- المعاهدات والاتفاقيات الدولية قبل عرضها على المجلس الوزاري.
- تعيين الكتاب العامين، ومديري الإدارات المركزية بالإدارات العمومية، ورؤساء الجامعات والعمداء، ومديري المدارس والمؤسسات العليا. وللقانون التنظيمي المشار إليه في الفصل 49 من هذا الدستور، أن يتمم لائحة الوظائف التي يتم التعيين فيها في مجلس الحكومة. ويحدد هذا القانون التنظيمي، على وجه الخصوص، مبادئ ومعايير التعيين في هذه الوظائف، لاسيما منها مبادئ تكافؤ الفرص والاستحقاق والكفاءة والشفافية.
يطلع رئيس الحكومة الملك على خلاصات مداولات مجلس الحكومة.
كما أن الفصل101 ينص على أن رئيس الحكومة يعرض أمام البرلمان الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة، إما بمبادرة منه، أو بطلب من ثلث أعضاء مجلس النواب، أو من أغلبية أعضاء مجلس المستشارين.
وحسب الفصل 104 فإنه يمكن لرئيس الحكومة حل مجلس النواب، بعد استشارة الملك ورئيس المجلس، ورئيس المحكمة الدستورية، بمرسوم يتخذ في مجلس وزاري على أن يقدم رئيس الحكومة أمام مجلس النواب تصريحا يتضمن، بصفة خاصة، دوافع قرار الحل وأهدافه.
ثانيا- القواعد الدستورية لتشكيل الحكومة:
لقد نظم الدستور المغربي مختلف السلط في النظام السياسي، من سلطة قضائية وسلطة تنفيذية إلى الانتخابات المحلية والجهوية وكذلك الانتخابات التشريعية؛ هذه الأخيرة تعتبر نتائجها حاسمة في أمر تشكيل الحكومة. ذلك أن الفصل 47 من الدستور أقر بأن الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب.(1)
كما أقر الدستور – ولأول مرة- بتأسيس مؤسسة رئاسة الحكومة، بحيث خول لرئيس السلطة التنفيذية صلاحياتٍ عدةً ومهامَّ أساسيةً في قلب النظام السياسي للبلاد.
غير أن اشتراط الدستور التنصيب البرلماني كإطار رسمي وقانوني هو الذي يجعل أمر تشكيل الحكومة من داخل أغلبية برلمانية أمرا ضروريا وحتميا.
فالحكومة يجب أن تنال ثقة البرلمان المعبر عنها بتصويت الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس النواب على البرنامج الحكومي، وهو نفس النصاب القانوني والدستوري المطلوب أثناء اشتغال الحكومة، بحيث ستحتاج لأغلبية مطلقة بمجلس النواب عند التصويت على مشاريع القوانين التنظيمية، ولا يمكن بالتالي أيضا تصور حكومة تشتغل بدون هذا النصاب الدستوري.
وهذا ما يعني بالمقابل أن عدم الحصول على هذا النصاب الدستوري في التصويت على البرنامج الحكومي يعيد الحكومة إلى المربع الأول، ولا يجعل لها أساسا دستوريا لممارسة السلطة التنفيذية، ويجعلها في هذه الحالة أيضا في موقع حكومة تصريف الأعمال، وذلك طبقا لأحكام الفصل 87 من الدستور ومقتضيات المادة 36 من القانون التنظيمي المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة.
ومن جهة أخرى لابد أن تتشكل الحكومة وفق هندسة ومنهجية موضوعية بعيدا عن التقسيم المصلحي أو توزيع للمناصب بشكل حسابي صرف بين الأحزاب السياسية، وعادة ترتبط الهندسة الحكومية بالتوجهات العامة الكبرى للبرنامج الحكومي . واحترام هذه المنهجية في تشكيل الحكومة تجعل التفاوض أكثر عقلانية وموضوعية.
كما أن الاتفاق المسبق على الهندسة الحكومية يجعل تشكيل الأقطاب داخل الحكومة أمرا متيسرا، وتتفرع عنها الهيكلة الحكومية، ولا يهم هنا من ناحية الفعالية والنجاعة عدد القطاعات الحكومية بقدر ما يتعين أن تكون الأولوية لقواعد الهندسة الحكومية.
فما العمل إذا ما فشلت الحكومة في نيل ثقة البرلمان؟ وما هي البدائل الممكنة عند تعثر الخيارات الدستورية؟
ثالثا- البدائل الممكنة لتشكيل الحكومة:
إن تعثر تشكيل تحالف حكومي منسجم أمر وارد بسبب تباين الاختيارات بين الأحزاب السياسية من جهة، وبين هواجس ترتيب التحالفات قبل الانتخابات وبعدها من جهة أخرى.
فرغم أن الدستور يصرح بشكل واضح أن رئيس الحكومة يعين من الحزب الذي يحتل المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية، فإنه من الممكن أن يجد هذا الأخير صعوبات في تشكيل حكومة منسجمة ببرنامج واحد وأهداف واضحة. ذلك لأن الأغلبية العددية التي ينبغي أن يحوزها في البرلمان تفرض عليه إجراء مشاورات وعقد تحالفات قد يكون من الصعب تأليفها.
وامام احتمال وقوع تعثر في تشكيل هذا التحالف، تبرز عدة بدائل يمكن بواسطتها تجاوز حالة الجمود في المفاوضات، وهكذا يمكن حصر ثلاثة بدائل ممكنة في هذا الصدد:
أ- تشكيل حكومة أقلية: بمعنى أن يشكل الحزب الأول حكومة مع حلفائه دون اشتراط حصول الأغلبية العددية في البرلمان. ما دام أن الدستور يعطي للملك وبشكل حصري صلاحية تعيين “رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب وعلى أساس نتائجها”(2).
فمن خلال هذا النص الدستوري لا يمكن تكليف رئيس حكومة من خارج الحزب الذي تصدر نتائج الانتخابات، كما أنه لا يشترط الحصول على أغلبية برلمانية، بالإضافة أنه لم يقيد رئيس الحكومة المعين بأجل محدد لتشكيل حكومته.
وهنا يختلف نظامنا الدستوري الحالي عن النظام الإسباني الذي يحدد دستورها بوضوح حالة المرور نحو الأغلبية النسبية للتصويت على الحكومة بعد تعذر التصويت عليها بالأغلبية المطلقة، ويتضمن الدستور الإسباني صراحة مسألة السماح بتشكيل حكومة أقلية في حالة امتناع أحد الأطراف السياسية عن التصويت ضد الحكومة، بما يجعل الحكومة منصبة بأغلبية نسبية.
إن عدم حسم الدستور في إشكالات كهذه؛ يجعل من إمكانية تشكيل حكومة أقلية أمرا واردا.
ب – تعيين رئيس حكومة جديد: رغم أن الفصل 47 من الدستور يحصر تعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي يحوز المرتبة الأولى، فإنه لم يقيد ذلك بأن يكون – بالضرورة- المسؤول الأول في الحزب. بل ترك الأمر مفتوحا بإمكانية تعيين شخص آخر من داخل نفس الحزب. ترى فيه النخبة السياسية إمكانية نجاحه في تشكيل الحكومة، وتجاوز حالة الجمود. وهذا الخيار مطروح ليس أمام رئيس الدولة فقط، ولكن الحزب نفسه يمكنه أن يختار من يراه مناسبا لمنصب رئيس الحكومة، طبعا مع ضرورة مراعاة مقاييس الكفاءة والتجرد والنزاهة.
إن أمر تعيين رئيس حكومة جديد يكون بعد تقديم هذا الأخير لاستقالته على أساس أنه لم يستطع تشكيل الحكومة، وبالتالي يطلب الإعفاء، خاصة إذا ارتأى حزبه تقديم شخصية أخرى لهذا المنصب.
ج – إعادة الانتخابات: وهو بديل ثالث مطروح أيضا في حالة تعثر تشكيل الحكومة وفق النتائج المحددة.
لكن الإشكال الذي سيعترض هذا البديل هو أولا الكلفة الباهظة للانتخابات ماديا ولوجيستيا؛ حيث تتطلب إعادةُ الانتخابات استعداداتٍ ربما تحتاج إلى شهور، إضافة إلى الكلفة المادية العالية، هذا فضلا عن النفور الذي –ربما- قد يبديه المواطن اتجاه العودة إلى صناديق الاقتراع…
كذلك ليس هناك ضمانة في أن لا تفرز الانتخابات المعادة نفس النتائج، باستثناء أن يعمد المواطنون المصوتون إلى معاقبة المسؤولين عن تعثر تشكيل الحكومة. وهو احتمال وارد لكنه غير مؤكد.
وفي هذا الصدد يطرح إشكال منهجية التصويت وقانون الانتخاب الذي يعتمد نظام اللائحة والتمثيل النسبي الذي يستحيل معه حصول حزب معين على الأغلبية المطلقة، ومن ثم تشكيل الحكومة بمفرده.
وأمام هذا الواقع فإنه يجدر التذكير بأن الدستور المكتوب لا يمكن أن يلم بكل الإشكالات أو أن يتنبأ بكل الاحتمالات، لذلك تم إقرار ما يعرف بالدستور الضمني، وهو عبارة عن أعراف يلجأ إليها المشرع لحل الإشكالات الطارئة وغير المتوقعة.
ذ. عبدالرحمن غربي
———————-
1 – الفصل 47 من الدستور المغربي
2 – الفصل 47 من الدستور