1 – شكل الكتابة: المستوى الإملائي: بين العموم والخصوص.
نختم الحديث في المستوى الإملائي بالمقارنة بين المستوى الإملائي في اللغة العربية بصفة عامة، و الرسم القرآني بصفة خاصة. ولذا نذكر ببعض ما تقدم من الأمثلة التي تختلف فيها المعاني بين شكل وآخر من أشكال الكتابة في اللغة العربية بصفة عامة دون تمييز بين اللغة العربية الطبيعية وما ورد في القرآن الكريم بصفة خاصة، ثم نمثل بعد ذلك إلى ما يختص به الرسم القرآني. ودور شكل الكتابة في إثبات خصوصية اللغة بين اللغات الإنسانية، ونفصل القول في أمثلة ما أجملنا الكلام بخصوصه فيما يلي:
أ- الأمثلة المتشابهة بين اللغة والقرآن:
يقول ابن قتيبة في باب “ما” إذا اتصلت -الذي سبق شرح أمثلة منه في الحلقة (22)- تقول: “ادع بما شئت” و”سل عم شئت” و”خذه بم شئت” و”كن فيم شئت”. إذا أردت معنى سل عن أي شيء شئت نقصت الألف. وإن أردت سل عن الذي أحببت أتممت الألف فقلت: ادع بما بدا لك، وسل عما أحببت، وخذه بما أردت، وكل هذا تتم فيه الألف إلا “بم شئت” خاصة؛ فإن العرب تنقص الألف منها خاصة، فتقول: ادع بما شئت في المعنيين جميعا” (194).
سبق شرح أمثلة النص أعلاه في الحلقة السابقة (22)، ولذا فلا داعي للوقوف عندها مرة أخرى، بل سنكتفي بجردها والتعقيب على كل منها بما جاء في القرآن، وذلك كما يلي:
- “بم”: قال تعالى: وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون(النمل: 35).
- وقال عز من قائل: ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون، فبما رحمة من الله لنت لهم…﴾ (آل عمران: 158-159).
هكذا نلاحظ أن “بم” كتبت بشكلين؛ أي بإثبات الألف وحذفها، وهذا ما ذكره ابن قتيبة بخصوص هذه الكلمة في النص أعلاه، وعليه فهنا يتساوى الرسم القرآني الخاص وشكل الكتابة في اللغة العربية العام.
- “عم”: قال تعالى: عم يتساءلون…﴾ (النبإ: 1).
وقال سبحانه: لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون﴾ (البقرة: 134).
هكذا يتضح أن كلمة “عم” كتبت بشكلين أي بألف تارة وبدونها أخرى، ولكل شكل دلالته، وهو ما وضحه ابن قتيبة في النص أعلاه بقوله “إذا أردت…” فكتابة الألف، وعدم كتابتها قيمة خلافية توجه المعنى إلى قصد دون سواه، وهو ما يجب على كل مستعمل اللغة العربية أن يكون على بينة منه!.
ب – إنما: كل الأمثلة السابقة واردة في القرآن الكريم كما هو واضح:
أما ما يتعلق بما فيه خصوصية للقرآن الكريم فيقول ابن قتيبة: “وتكتب “إنما فعلت كذا” و”إنما كلمت أخاك” و”إنما أنا أخوك” فتصل، فإذا كانت في موضع اسم قطعته، فكتبت [فتكتب] “إن ما عندك أحب إلي” و”إن ما جئت به قبيح”. وقد كتبت في [258] المصحف، وهي اسم، مقطوعة وموصولة، كتبوا: ﴿إن ما توعدون لآت﴾ (الأنعام: 134) مقطوعة. وكتبوا: إنما صنعوا كيد ساحر﴾ (طه: 69) موصولة، وكلاهما بمعنى الاسم.
هكذا يتضح أن كتابة “إنما” متصلة غير كتابتها منفصلة في نظام قواعد اللغة العربية كما هو مبين في عبارتي النص أعلاه، لكن الأمر يتطلب مستوى خاصا في معرفة قواعد اللغة العربية لأجل إدراك قصد المؤلف من قوله: “فإذا كانت في موضع اسم قطعته” فما هو الاسم الذي يتبادر إلى الذهن في عبارة: “إن ما عندك أحب إلي…”؟ فهذا يقتضي معرفة وظائف أحرف المعاني التي منها “ما” ومعرفة أحوال “ما” نفسه حتى يمكن القول بأن المقصود بالاسم هنا: هو الاسم الموصول.!
ج – خصوصية الرسم القرآني:
يقول الزركشي، في سياق “علم مرسوم الخط”: «واعلم أن الخط جرى على وجوه، فيها ما زيد عليه اللفظ، ومنها ما نقص، ومنها ما كتب على لفظه، وذلك لحكم خفية، وأسرار بهية تصدى لها أبو العباس المراكشي الشهير بابن البناء في كتابه: “عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل”، وبين أن هذه الأحرف إنما اختلف حالها في الخط بحسب أحوال معاني كلماتها.
ومنها التنبيه على العوالم: الغائب والشاهد، ومراتب الوجود والمقامات. والخط إنما يرسم على الأمر الحقيقي لا الوهمي…» (البرهان في علوم القرآن 1/461).
سنعود لعرض أمثلة تطبيقية من القرآن الكريم لما تمت الإشارة إليه في الفقرة قبله بعد عرض ما يثبت قيمة الخط وأنواعه في اللغة العربية بصفة عامة، وفي القرآن بصفة خاصة. وفي هذا السياق يقول الزركشي: «ولما كان خط المصحف هو الإمام الذي يعتمد القاري في الوقف والتمام، ولا يعدو رسومه، ولا يتجاوز مرسومه، فقد خالف خط الإمام في كثير من الحروف والأعلام، ولم يكن ذلك منهم كيف اتفق، بل على أمر عندهم قد تحقق، وجب الاعتناء به، والوقوف على سببه.
ولما كتب الصحابة المصحف زمن عثمان اختلفوا في كتابة “التابوت” فقال زيد: “التابوه”. وقال النفر القرشيون: “التابوت”، وترافعوا إلى عثمان فقال: «اكتبوا “التابوت” فإنما أنزل على لسان قريش.
قال ابن درستويه: خطان لا يقاس عليهما، خط المصحف وخط تقطيع العروض.
قال أبو البقاء في كتاب اللباب: «ذهب جماعة من أهل اللغة إلى كتابة الكلمة على لفظها إلا في خط المصحف، فإنهم اتبعوا في ذلك ما وجدوه في الإمام. والعمل على الأول».
فحصل أن الخط ثلاثة أقسام: خط يشع به الاقتداء السلفي، وهو رسم المصحف، وخط جرى على ما أثبته اللفظ وإسقاط ما حذفه وهو خط العروض فيكتبون التنوين ويحذفون همزة الوصل، وخط جرى على العادة المعروفة وهو الذي يتكلم عليه النحوي» (البرهان في علوم القرآن 1/457).
تلك معالم شكل الكتابة في اللغة العربية الذي عبرت عنه بالمستوى الإملائي -كما هو معروف- وهو المعبر عنه بمرسوم الخط كما هو مستعمل في هذا المجال منذ القدم، والنص الذي جردنا فقراته أعلاه [من "النوع الخامس والعشرون على مرسوم الخط"] يتضمن عبارات هامة تدل على أهمية شكل الكتابة من بين مستويات الدرس اللغوي العربي مثل قوله: «ولما كان خط المصحف هو الإمام…»، وقوله في سياق عرض العبارة قبله: «ولم يكن ذلك منهم كيف اتفق…»، وقوله: “خطان لا يقاس عليهما..”، وقوله: «ذهب جماعة من أهل اللغة إلى كتابة الكلمة على لفظها…» وقوله: «فحصل أن الخط ثلاثة أقسام…».
هذه العبارات وما يشبهها يجب الوقوف عندها، وتأمل مغزاها لمعرفة قيمة مرسوم الخط الذي عبر عنه الزركشي بقوله: «علم مرسوم الخط» إنه علم خاص في مجال ضبط علاقة اللفظ بالمعنى أو الدال بالمدلول. فشكل الكتابة ينبغي أن يحظى بالاهتمام اللازم عند مستعمل قواعد اللغة العربية عند ما يعرض شكلا من أشكال الكتابة الذي يحتمل أكثر من وجه كما سبقت الإشارة إليه في الأمثلة التي شرحناها بهذا الخصوص في الحلقات السابقة.
يتبع.
د. الحسين كنوان