إن الخطيب مهما أوتي من قدرة بلاغية، وقوة في التأثير في السامعين، لا يمكن أن يكون لكلامه أي تأثير في السامع، إن كان هذا السامع غير حاضر الذهن أو معاندا، أو متمسكا بفكرة مسَبّقة عن موضوع ما من المواضيع المطروقة، أو عن الخطيب ذاته.
إن حضور الخطبة، وفي الذهن أفكار مسَبَّقة عن الخطيب من أنه إنسان تقليدي، وأنه لا يواكب العصر، أو أنه متعصب للنص، وغير منفتح على قضايا العصر. أو عن موضوع من الموضوعات التي يثيرها المغرضون، بعدم التسليم بما جاء به الشرع ونصَّ عليه بالنص، والدعوة إلى تجاوز ما جاء به بدعوى تغيُّر الزمان والمكان، كالمواقف التي يقفها البعض من الإرث وتحريم الخمر والربا والتبرج والرشوة وما إلى ذلك.. كل تلك المواقف المنافية لمبادئ الدين حينما تدغدغ ذهن المستمع للخطبة تجعله منصرفا عما يقوله الخطيب من القول الحق في مثل هذه المواضيع، وبذلك تبقى الخطبة المنبرية بعيدة عن أداء دورها المنشود بسبب هذه المواقف المسبقة.
ولهذا السبب تحدث القرآن الكريم عن المتلقي/السامع كما تحدث عن المتكلم، فبيَّن الله تعالى أن المؤمنين يستمعون إلى القول ويتبعون أحسنه ويعملون به: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَاب(الزمر: 18)، وحذَّرهم من افتعال الاستماع، فقال : وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُون(الأنفال: 21). كما بين تعالى أن من فسدت حواسه لا يتمكن من إدراك الحقيقة ولا الاقتناع بها؛ لأنه لا ينتفع بحواسه: وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ(يونس: 42).
ولقد كان الرسول القدوة المثلى في هذا الباب، إذ أن من شمائله أنه كان إذا حدثه شخص، كان لا يتكلم إلا إذا فرغ ذلك الشخص من حديثه. وكان إذا التفت إلى المتحدث الذي يحدثه التفت إليه بجسده كله، لا بوجهه فقط. ومن مواقفه المشهورة التي هي من هذا القبيل، ما حدَث حينما جاءه عتبة بن ربيعة يفاوضه ويعرض عليه عدة أمور، فقال له قبل أن يتحدث: «قل ياأبا الوليد أسمع». قال ابن هشام: “حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه، قال: «أقد فرغت ياأبا الوليد ؟» قال: نعم. قال : «فاسمع مني…».
كما أن الصحابة رضوان الله عليهم ضربوا المثل الأعلى في حسن الاستماع، فلقد كانوا يستمعون إلى الرسول وقلوبهم وجِلة، وأعينهم دامعة، خاشعين من شدة الإنصات، وكأن على رؤوسهم الطير، بل كانوا أحيانا يغطون وجوههم ولهم خنين.. ومن مواقفهم هذه استنبط بعض السلف القاعدة التالية: “أول العلم الصمت، والثاني الاستماع، والثالث الحفظ، والرابع العمل به، والخامس نشره”.
ولقد بين علماء السلف أهمية الاستماع ودور السامع في الفهم. قال الحسن البصري: “إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن القول..”، وقال أبو الدرداء: “أنصف أذنيك من فيك، فإنما جُعل لك أذنان اثنان وفم واحد، لتسمع أكثر مما تقول”. وقال عمر بن عتبة لأحدهم، وهو بمكان يسمع فيه سِبابا: “نزّه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه لسانك عن الكلام به، فإن السامع شريك القائل”. وقال صالح المُري: “سوء الاستماع نفاق”. بل إن هناك من كان يرى أن الاستماع أجلُّ من الكلام، لأن الله تعالى قدَّم السمع في الذِّكر على وسائل الإدراك الأخرى، كما في قوله : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا(الإسراء: 36).
وإن ما جرى عليه العرف في مساجدنا بالمغرب من تذكير السامعين بحديث الرسول الذي يرويه الإمام مالك، «إذا قلت لصاحبك أنصت، والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت»، يدل على أن الاستماع إلى الخطيب أمر واجب. كما يدلُّ أيضا على التحذير من الانشغال عن الاستماع إلى الخطيب لما في ذلك من الضرر الذي قد تترتب عنه مخالفة شرعية، أو على الأقل ضياع الأجر، وتفويت للاستفادة. ويعزز ذلك ما ورد في الأثر عن عثمان بن عفان، أن “المنصت الذي يستمع للخطيب، له من الأجر مثل المنصت الذي لا يسمع”. مما يعني أن الإنصات واجب حتى ولو كان المستمع لا يسمع صوت الخطيب.
أ.د. عبد الرحيم الرحموني