في المقال السابق بيَّنا طرفاً من الإعجاز التشريعي في بناء المجتمع المثالي، بذكر بعض آثار عقد الرهن، وكيف تسهم تلك الآثار في بناء الطمأنينة والاستيثاق للحقوق، وتيسير قضاء حوائج الناس، وحفظ ماء وجوههم، وفي المقال هذا نُضيف بعدًا آخر وطرفا جديدا من هذا الإعجاز الرباني في بناء المجتمع الإسلامي الصالح، وذلك من خلال وقفة مع باب الصلح أو عقد الصلح في الفقه الإسلامي.
الصلح وقاية وعلاج:
عقد الصلح معدود من العقود اللازمة، وقد شرع هذا العقد لقطع النزاع بين الناس، ويعمل على جانبين؛ جانب وقائي وهو: دفع المنازعات قبل وقوعها، وجانب علاجي وهو: رفع النزاع بعد حصوله، وهو الأكثر.
الأصل الشرعي للصلح:
من حكمة الله البالغة أنه وضع كل وسائل حماية المجتمع الإسلامي الذي أراده، ورسخ كافة عوامل استقراره وأمنه، وهنا نجد أنه سبحانه يأمر بالصلح تارة، ويمدحه ويجزل الأجر لفاعليه تارة أخرى، متى قصدوا بذلك مرضاته تعالى، وتارة يأمر به ويحث عليه، ففي الأمر به بين المسلمين يقول تعالى: فأصلحوا بين أخويكم(الحجرات :10). وفي مدحه قال تعالى: والصلح خير(النساء: 128)، وفي بيان ثواب فاعليه بإخلاص جاء قوله تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما(النساء: 114). قال القرطبي: “أو إصلاح بين الناس عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين”، وقال ابن عاشور معلقا على قوله تعالى: ومن يفعل ذلك …إلخ: “وعد بالثواب على فعل المذكورات إذا كان لابتغاء مرضاة الله. فدلّ على أنّ كونها خيراً وصف ثابت لها لما فيها من المنافع، ولأنّها مأمور بها في الشرع، إلاّ أنّ الثواب لا يحصل إلاّ عن فعلها ابتغاء مرضاة الله”.
دوائر الصلح وتأمين المجتمع الإسلامي خارجيا وداخليا:
المجتمع المثالي هو المجتمع المستقر داخليا، الآمن المرهوب الجانب خارجيا، الذي يتمتع بقدر من الأمان العام يدفعه إلى التنمية والإنتاج والانطلاق لتحقيق رسالته والتقدم نحو غايته، ولا يمكن أن يتحقق ذلك في ظل أجواء يسودها الخوف والاضطراب، ويسيطر عليها الخصام والنزاع، ولتحقيق هذا القدر من الأمن المنشود الذي هو عماد الاستقرار شرع الإسلام الصلح كأحد أدوات الاستقرار الفردي والجماعي، ولم يقصر صورته أو مساحته بين أبناء المجتمع الواحد؛ وإنما امتدت مساحته في الإسلام حتى يكون مطلوبا بين الجماعات داخل المجتمع الواحد، وكذلك بين المسلمين وغيرهم عند نشوب الاختلافات والنزاعات. جاء في “مغني المحتاج” للشربيني الخطيب الشافعي في بيان أنواعه قوله: “وهو أنواع: صلح بين المسلين والكفار، وبين الإمام والبغاة، وبين الزوجين عند الشقاق، وصلح في المعاملة” (2/177).
وهذا النص الفقهي يرسم لنا دوائر وقوع الصلح فتمتد لتشمل كافة الدوائر الصغيرة والكبيرة، وهي:
1 – دائرة الخارج: بحيث يقطع الصلح النزاع القائم بين الأمة المسلمة وبين أعدائها وخصومها تأمينا للأمة من جانب الخصوم.
2 – دائرة النزاع السياسي داخل المجتمع المسلم، بقطع النزاع القائم بين من بغى ومن بُغي عليه من أبنائه، بحيث يلتئم جسم المجتمع ويتفرغ للبناء والدعوة.
3 – دائرة البيت والأسرة بين الزوجين، بحيث يحفظ على الأسرة أمنها الاجتماعي وكرامتها الإنسانية.
4 – الدوائر الفردية في الخلافات المالية وغيرها.
وبتحقق الصلح في هذه الدوائر جميعا يَسُدُّ المسلمون ثغرات خطيرة من شأنها أن تعصف بمقدرات مجتمعاتهم، وتهدم بنيانها المادي والمعنوي. فعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟» قالوا: بلى. قال: «إصلاح ذات البين». قال: «وفساد ذات البين هي الحالقة» (رواه أبو داود والترمذي).
وحماية المجتمع الإسلامي بالصلح والمصالحة ناتجة عن كون الصلح خيرا، قال ابن عطية: “وقوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ لفظ عام مطلق بمقتضى أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا خير من الفرقة”. فهو خير للفرد وللأسرة وللمجتمع، وخير لكل الأطراف الخارجية والداخلية، والشر إنما هو في حصول الشقاق والخلاف والعداوات.
الصلح قبل القضاء:
ليس الصلح كالقضاء في طبيعته وآثاره، فالقضاء وإن كانت عند أحكامه مقاطع الحقوق، إلا أنه غالبا لا يقطع النزاع أو على الأقل لا يُذهب أحقاد النفوس، ولا يمنع ضغائنها لخلوه في صورته النهائية من عنصر الرضا والتراضي، أما الصلح فشأنه مختلف حيث يسوده غالبا التراضي والتنازل والعفو، لذا فإن الخصومة بين الأطراف والتقاضي حولها لا يتجدد غالبا، بخلاف التقاضي، لذا قرر الفقهاء أنه يحسن بالقاضي ترك القضاء والتحول إلى الصلح في بعض الأحوال، وبخاصة فيما بين القرابات وكبار القوم ووجهائهم، وكل ما يغلب على الظن فيه أن القضاء قد يفضي إلى مفاسد أعظم مما سيحسمه، ولذا كان عمر بواسع فقهه وبصيرته الإيمانية يقول: “ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث الضغائن بين الناس”. وكان يقول: “ردوا الخصوم إذا كانت بينهم قرابة، فإن فصل القضاء يورث بينهم الشنآن”.
الجانب التربوي في الصلح:
إن الصلح يعبر عن عدة مضامين تربوية ينبغي على العاقل الحصيف أن يدركها، تتمثل في:
1 – خيرية الصلح، وفضل الساعي فيه لإتمامه، مع عظم الأجر والثواب للقائم به.
2 – سيادة معاني الأخوة والمحبة والحرص في نفس من يسعي بين الناس بالإصلاح، حيث لا يهدأ له بال ولا تقر له عين وإخوانه من حوله على أي مستوى تأكلهم العداوات، وتباعد بينهم الخصومات.
3 – فيه امتثال القائم به والقابل له من الطرفين لأمر الله تعالى.
4 – وفيه معنى العفو والتسامح والتغاضي عن زلات الخلق، وربما يتنازل طرف عن بعض حقه لتحقيق الالتئام وسلامة الصدور.
لهذا كله ولغيره من الأسرار والفضائل والآثار كان هذا العقد الفقهي الاجتماعي صورة معجزة وتشريعا مهما ورئيسا في الشريعة لتأسيس مجتمع إسلامي آمن ومثالي.
د. أحمد زايد