لقد جبل الإنسان على شيء من الأثرة والحرص على ماله وممتلكاته، فقلما تجد الإنسان مسرفا ومضيعا لماله إلا في النادر، ولكن الأموال العامة وممتلكات الأمة فيها تقع معصية التضييع والتبذير غالبا، فيتسلط صاحب المنصب بغير حق على الأموال العامة عن الضياع والإسراف، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حج عمر سنة ثلاث وعشرين فأنق حجته ستة عشرا دينارا، فقال: يا عبد الله أسرفنا في هذا المال.
وكان يقول لهم : “لا يحل لعمر في مال الله إلا حليتين: حلج للشتاء، وحلة للصيف، وقوتي وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأناهم ولا بأفقرهم” (رواه ابن سعد من حديث الأحنف بن قيس).
وكان يرى التوسع في المطعم والمشرب استنفادا للطيبات في الحياة الدنيا ينعكس بالإفلاس يوم القيامة، فعن أبي مليكة قال: كلم عتبة بن فرقد عمر في طعامه فقال: ويحك! آكل طيباتي في حياتي الدنيا وأستمتع بها. وكان يرى أيضا أن الإسراف في أكل المرء كل ما يشتهي، فقد دخل على ابنه عاصم وهو يأكل لحما فقال: ما هذا؟ قال: قرمنا إليه، قال: أو كلما قرمت إلى شيء أكلته؟ كفى بالمرء سرفا أن يأكل ما يشتهي.
وكان لا يجمع بين إدامين ويعده إسرافا، فعن الأحوص بن حكيم عن أبيه: أتى عمر بلحم فيه سمن، فأبى أن يأكلها، وقال: كل واحد منهما إدام. وأشد من هذا قبحا وإثما من يتلف ماله في معاصي الله تعالى، فيستعين بمال الله على معاصيه، ويدخل في عموم النهي عن إضاعة المال القليل منه والكثير.
وعن وراد كاتب المغيرة بن شعبة قال: أملى على المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية أن النبي كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: «لا إله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما مانعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد» وكتب إليه أن «كان ينهي عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال، وكان ينهي عن عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات» (متفق عليه)، وسبق شرحه.
قوله: «لا ينفع ذا الجد منك الجد» قال الخطابي رحمه الله تعالى: الجد الغنى، ويقال الحظ. أي لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، إنما ينفعه العمل الصالح. وقال الراغب: المراد به هو أبو الأب، أي لا ينفع أحدا نسبه.
قوله: «وكان ينهي عقوق الأمهات» قال النووي: لأن أكثر العقوق يقع للأمهات، ويطمع الأولاد فيهن. وقال القرطبي: العقوق:و مصدر عق يعق، عقوقا، أي قطع وشق. فكأن العاق يقطع ما أمره الله تعالى به من صلتهما، ويشق عصا طاعتهما. «ومنع وعات» وهو أن يمنع ما وجب عليه بذله، ويطلب شيئا يحرم عليه طلبه. اهـ
ذ. عبد الحميد صدوق