جاءتني تحمل الكثير من الحرقة وحزمة مشاريع تريد أن تنزلها من خلال موقع تحمله كل ما يخدم الإسلام، وقالت إن موقعها تريده محطة للمتشككين والحائرين والأوابين، وحدثتني عن علماء ألحفت في دعوتهم لإعانتها على توجيه وإغناء الموقع لكنها لم تصادف إلا تأجيلا ثم صمتا كصمت القبور.
لم تستطع تفسير ذلك البرود الذي طبع رد فعلهم إزاء مشروع أرادته شموليا وسعت إلى المختصين لتجيب عن أسئلة حارقة غدت تؤثث المشهد الديني الجديد..
قالت إنها تريد علماء ربانيين يخوضون بعلم رصين وخلق رفيع في الرد على المعارضين لإيقاف نزيف التنابز بصفات التكفير من جهة، وصفة العلمانية والعمالة والاستلاب من جهة أخرى.
صدقها وقلة حيلتها وشعورها بالغربة وضعني على الصفيح الساخن لسؤال النهضة وأنا أرى عزائم عزلاء تتخبط في بحر لجي من اللامبالاة أو الانخراط في الورش الخطأ، وأصحابها أشبه بالعامليْن اللذين صعدا سلالم عمارة يريدان العمل بها، وكان طابق السطوح الذي يريدانه بعيدا جدا في ناطحة سحاب، والمصعد معطل، فظلا يرتقيان الدرج، وفجأة توقف أحد العاملين وقال لصديقه: عندي خبران، جيد وسيء، أما الجيد فقد وصلنا أخيرا إلى طابق السطح، وأما السيء فهو أن هذه العمارة ليست هي المقصودة..
وبصيغة أخرى، ترانا وضعنا أقدامنا على سكة الانطلاق الحضاري أم تراها كما تقول العرب جعجعة أبدية بلا طحين ولا حتى قشور النخالة؟.
إن ما نراه اللحظة من هبات دينية على صفحات الفايسبوك والواتساب، والتي تحمل مئات الفيديوهات والقصص الدينية المأثورة بل وزحمة تفاسير وشروح دينية، وتقدم في طياتها كشوفا مذهلة في علوم الإعجاز القرآني ووصفات خارقة للحاق بركب المؤمنين لتجعل المرء يستخلص أن صفارة انطلاق القطار توشك أن ترتفع مدوية للعالمين، لكن التمحيص والتأمل في هذا الزخم يجعل المرء يتساءل أمام ضراوة التكالب العدواني على العالم الإسلامي إن لم يكن الأمر يتعلق بمسكنات يتناولها رواد هذه المواقع فتضعهم في صورة إقلاع وهمي وقناعة تامة بأن الإسلام قادم وهو الحل بكبسة على الزر، ويكفي المسلم أن يتخذ له ركنا مكينا من عزلة عبادات، يزينها بمعاملات رفيعة لينهار جدار الباطل وتأتي النهضة راغمة وكساحر القمقم هاتفة “شبيك لبيك النهضة بين إيديك”..
وقد ذكرني هذا الوضع المشبوه بالقصة العجيبة التي أوردها المفكر الإيراني “تقي المدرسي” في كتابه “المجتمع الإسلامي منطلقاته وأهدافه”. يقول المدرسي إن فضل العالم على العابد كبير ويسوق قصة العابد الذي قضى زمنا في سفح يعبد الله، فقال ملك كريم لله سبحانه: إلهي عبدك هذا يعبدك ليل نهار، قال الله سبحانه: انزل عنده، اعبدني معه، فنزل فرحب به العابد، وأثناء الحديث معه قال العابد للملك إن هناك شيئا يحيره، وهو أن الله لم يتخذ حمارا له يرعى في المروج الفسيحة المحيطة بالعابد، وكان لمحدودية عقله يظن أن لله حمارا وأنه عليه أن ينزله لتك المراعي الواسعة، فصعد الملك إلى الله سبحانه وقال له: الآن فهمت لماذا لم تعطه على قدر عبادته، وإنما على قدر عقله.
القصة إياها لم أعتمدها على مستوى المصدر لخشية أن يشوبها دخن ما، وإنما أدرجتها لحمولتها المجازية الموافقة للأحاديث النبوية الصحيحة حول أسبقية العالم على العابد فعن أبي أمامة الباهلي قال: ذكر لرسول الله رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله : «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» ثم قال رسول الله : «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير». وقد عرضت القصة لما لها من معاني توافق الخيط الذي نحاول القبض عليه، خيط شمولية الإسلام التي تعني ببساطة أن البناء لا يعلو إلا بركائزه الأساسية، تلك التي تتطلب تدافعا وجهدا وبلاء وفق تخطيط وتدبير تشحن بطاريته عبادات ربانية مخلصة وصادقة..
ولا بديل عن مسار السنن الكونية في مدافعة الحق للباطل، تلك السنن التي سار وفقها الأنبياء والرسل فحصدوا النصر والتمكين لدين التوحيد ولو بعد حين. ويسوق د. محمد الصلابي في كتابه الماتع “فقه النصر والتمكين” محطات مسار الألم والأمل مع أنبياء الله تعالى فيقول: “إن انتصار منهج الله والتمكين له وتعرف الناس عليه يحتاج إلى رجال يرفعون أصواتهم حتى يسمع الآخرون”، ويستشهد من بين قصص أخرى بقصة غلام الأخدود العجيبة، ويدرج فيها ملحمة الصبر بين غلام وراهب ومستشار ملك، وكلاهم سيبتلى بلاء شديدا ليرجعوا عن دينهم، لكنهم أبوا وسيقدمون حياتهم فداء لدين التوحيد في مشاهد قوية جدا ومزلزلة. فكان أن أسلم كل الناس.
وبالنتيجة فأمور خلافية تمور بها الساحة الآن كالنقاب وغيره تحتاج قبل الوصول إلى عتبتها تخصيب الأراضي الجدباء لوجدان وعقل المسلمين؛ لأن من ذاق عرف، ومن عرف غرف كما يقول العارفون، ومع ذلك فإن رياح النهضة المباركة، ورغم كل الأنواء الأصيلة والدخيلة، لتواصل الهبوب وإن فندوا.
ذة. فوزية حجبـي