- دراسة الشكل:
لقد أخرجت هذه الوحدة المعنوية في صورة وحدة مبنية غاية في الأحكام:
فالمخاطَبُ من أول السورة إلى آخرها واحد هو الرسول أول مرة وكل مؤمن من بعده في مثل حاله إلى قيام الساعة، والخطاب متوزع على جسم السورة بكيفية تتناسب مع كل جزء منها، فهو يكثر في البداية ويؤكد لحاجة المخاطب إلى دفع ليندفع: اقرأ باسم ربك… اقرأ وربك… ويكثر ويتزاحم في النهاية لشدة الحاجة إلى حل حاسم، وجرعات دواء مركزة: كلا لا تطعه واسجد، واقترب، وهو في الحالين معا دليل المعية؛ بل هو في جميع الحالات أمرا كان أم إضافة أم نهيا – دليل قرب ومحبة.
والمخاطِبُ من أول السورة إلى آخرها واحد هو الله . والتدرج من الحديث عنه أول السورة بضمير الغائب “خلق – علم…” إلى الحديث عنه آخر السورة بضمير المتكلم (لنسفعا – سندع) يتناسب مع التعريف به أولها، ونصرته لأوليائه آخرها، كما يتناسب مع تدرج صلة وليه به التي منتهاها المحبة “فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها..، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه” (رواه البخاري).
والمغضوب عليه كالمنعم عليه من أول السورة إلى آخرها واحد هو: الذي يطغى. والتزام الحديث عنه بضمير الغائب يتناسب مع مقته والغضب عليه؛ لأنه من الذين “لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم…” كما يتناسب مع تهوين أمره عند وجود معية الله لأوليائه: إن ينصركم الله فلا غالب لكم.
والمقاطع وإن كانت متعددة فهي في ترابطها، ومشابهة بعضها لبعض وانبناء بعضها على بعض، وإسلام بعضها لبعض كالمقطع الواحد، فالثاني له نفس بداية الأول: (اقرأ)، والرابع والخامس لهما نفس بداية الثالث: (كلا)، وهي جميعا متقاربة أو متحدة الوزن: بدايات (فعلن) وفواصل (فعل – فعلن). وكلما تشابه الهدف من الخطاب كثر الشبه بينها. وآخر السورة بصفة عامة يشبه أولها، والمقطع السابق يمهد إيقاعيا للاحق سواء في أصوات الحروف، أو في تعاقب الحركة والسكون، أو في نوع الفاصلة (فعلن) أو (فعل). والسورة تبدو إيقاعيا سريعة الطرفين، متراخية الوسط، وذلك يتجاوب غاية التجاوب مع مضمون الربوبية المتقدم: أنعام فأمثال فجزاء يعين على كل ذلك فاصلة القاف والباء، وكلاهما من حروف القلقلة في المقطعين الأول والأخير، ثم فاصلة الميم، والهاء في المقطعين الثاني والرابع. وكل من المقطعين متأثر في فاصلته بجوار سابقه. ثم فاصلة الألف المقصورة التي تختم جميع آيات المقطع الثالث. وهو الأطول (9 آيات) والأوسط والتي بطولها – وطول مقطعها آيات ومدودا تسهم أيما إسهام في تصوير إمهال الله للإنسان قبل أخذه وطول فرصة الحياة الدنيا قبل “الرجعى”، وفترة صراع الخير والشر. ولا سيما على النفس واستطالة الطغيان سادرا في سكرته، غافلا عن الرجعى إلى ربه، وعن أن الله يراه.
والحروف والكلمات والجمل والآيات كلها تتعاون وتتساند لأداء المراد، مبلغة رسالة الله إلى العباد على امتداد الزمان والمكان بأمانة ودقة وإحكام ويسر…
فقصر الآيات مناسب للبدء ولتيسير الحفظ ولتوالى الإنعام وتكرار الإمهال وسرعة الجزاء. وفعلية الجمل وتوالدها، وأحيانا كما في المقطعين الأولين: (الذي خلق – خلق…) ينسجم مع نعمة الربوبية التي تتدفق في تنام عبر الزمن على الإنسان واهبة أو راعية أو جازية. والجملة الاسمية التي تظهر (أحيانا) لا تظهر إلا إذا تطلب السياق تقرير حقيقة ما. وعلى قدر مطلقية الحقيقة وعدم ارتباطها بالزمن تكون الاسمية (وربك الأكرم ـ إن الإنسان ليطغى -ـ إن إلى ربك الرجعى – بأن الله يرى).
والكلمات تدق وتتمكن حتى لا يمكن تعويضها بسواها، وتتسع وتمتد حتى لا يمكن إخراج شيء منها، وتعلو على الزمن والمكان حتى ليظن أنها ما كان لها تاريخ نزول وسبب نزول ومكان نزول، فالأفعال كثيرا ما تحذف مفاعيلها أو ترجأ لمد الفكر:
(اقرأ – خلق – علم بالقلم – ليطغى – استغنى – أرأيت – ينهى – صلى – أمر- كذب – تولى – يرى – ينته – فليدع – سندع – اسجد – اقترب) وإذا ذكرت عامة (الإنسان – ما لم يعلم – عبدا…). والأسماء يختار منها الأعم والأهم لتكون خطابا للإنسانية جمعاء في كل عصر ومصر ذكورا وإناثا بيضا وسودا.. (الإنسان الأكرم – علق – القلم – ما لم يعلم – الرجعى – الذي ينهى – عبدا – الهدى – التقوى – الناصية – الزبانية).
ألا ما أروع أن يكون أول نازل لا ذكر فيه لعرب ولا لعجم ولا لطبقة ولا لسن ولا للون ولا لعرق… ولكن فيه ذكر “الإنسان”. والإنسان من حيث هو إنسان. أليس إعجازا في الخطاب هذا الابتداء والمنزل عليه عربي قرشي هاشمي مكي متحنث في غار؟ وأليس إعجازا في التناول أن يتجاوز أبو جهل ومحمد ليصاغا في صورة نموذجين إنسانيين هكذا لا أثر فيهما للحم والدم: الذي ينهى و عبدا إذا صلى؟ بلى وإن في عموم اللفظ القرآني لسرا.
ذلكم قل من كثر مما تزخر به سورة العلق من اللآلئ معنى ومبنى، وعسى أن يكون في ذلك بعض ما يعين على فهمها وتذوقها والعمل بها.
والحمد لله رب العالمين.
د. عبد العلي حجيج