رغب إلي قارئ كريم، منذ شهور، أن أخص شيخي عبد الله الطيب بحديث. وقد وعدته منذئذ خيرا، وهذا هو أوان الوفاء بالوعد.
والحديث عن البروفيسور عبد الله الطيب ذو شجون، حتى إنّ المرء ليعجز فلا يعرف من أين يبدأ. وقد قال عنه شيخي وصديقه الدكتور عبد السلام الهراس، في كلمة نشرتها جريدة الشرق الأوسط: (وللدكتور عبد الله الطيب جوانب كثيرة، فهو أديب كبير، وباحث عظيم، وناقد بصير، ومفكر عميق، ولغوي قدير، ونحوي متبحر، ومقرئ ومفسر، ومؤرخ، ومتضلع في الأدب الغربي المكتوب بالإنجليزية.
وقد لفت الأنظار إليه بنبوغه المبكر، وهو من القلائل في عصرنا الحاضر من ألف كتابا لم يؤلف مثله في الأدب العربي إلى الآن وهو في الثلاثين أو دونها: “المرشد إلى فهم أشعار العرب”، وحسبه فخرا أن يشيد الدكتور طه حسين به وبكتابه).
فإذا أضفت إلى ذلك علاقتي الخاصة به، وما عرفته عنه عن كثب، أثناء مرافقتي له مشرفا على رسالتي لدبلوم الدراسات العليا، ثم ما بعد ذلك من اللقاءات التي جمعتني به في بيته، أو في المنتديات العامة، في فاس ووجدة، ثم في الخرطوم، اتسعت جوانب الحديث، وصارت الإحاطة بها مما لا يتسع له هذا الحيز من الجريدة، حيث امتدّت علاقتي به منذ عام 1978، يوم قبل الإشراف على رسالتي الجامعية، حتى زيارتي له في الخرطوم عام 1990، حيث كان ذلك اللقاء آخر العهد به رحمه الله تعالى. وحسبي إذن أن أشير إلى بعض من شخصية هذا الرجل العظيم.
صار الدكتور عبد الله الطيب ملء السمع والبصر منذ صدور كتابه، (المرشد إلى فهم أشعار العرب)، ثم إنه انتقل إلى المغرب، وأقام به سنوات، هو وزوجه جوهرة، عدّاها من أزهى سنوات العمر.
وأبيح لنفسي، في هذا المجال، أن أنقل بعض ما سجله الدكتور عبد السلام الهراس، فهو شاهد صدق على مرحلة انتقال الدكتور عبد الله الطيب إلى فاس. قال رحمه الله: “شاء الله أن ينتقل إلى المغرب، وبالذات إلى فاس التي يقول عنها إخواننا السودانيون إشادة بها وإعجابا بأهلها: «فاس! يا ما وَرَاها ناس». فكثيرا ما كان الدكتور صالح سوار الذهب (وهو عم الرئيس العظيم الزاهد عبد الرحمن سوار الذهب) يردد هذه الجملة أمامنا.
ولقد رغبه في الالتحاق بنا بفاس أخونا الدكتور عباس الجراري الذي اضطلع بمهمة التعاقد مع أساتذة جامعيين بالمشرق العربي للتدريس بالمغرب.. فقد اتصل به سنة 1973 ورغبه في العمل بالمغرب وصادف ميلا منه للاستجابة وقال له: «سألتحق بكم إن شاء الله عند انتهائي من مهمتي مديرا للجامعة بعد نحو سنة».. وفي السنة الجامعية 74-75 زارني الدكتور الراحل عبد اللطيف السعداني بصحبة الدكتور عبد الله الطيب يبشرني بالتحاقه بقسم اللغة العربية وآدابها التي كنت آنذاك رئيسها.. وكان ترحابي بشيخنا الجليل يليق بمقامه. ومن هنا تبدأ علاقة الرجل بالمغرب.. وإن كنا عرفناه سابقا في مهرجان «ابن زيدون». وقد أسندنا إليه التدريس في كل من قسم الأدب العربي وقسم الأدب الإنجليزي، حيث كان يُدَرسُ اللغة العربية والثقافة الإسلامية، وتركناه يختار المادة والمقرر والجدول الزمني مع حريته في التغيير إن شاء متى شاء، فهذه جامعته وكليته وقسمه يتصرف وفق ما يراه ملائما له.. ثم أسندنا إليه التدريس في الدراسات العليا، والإشراف على الرسائل العلمية الجامعية والاشتراك في المناقشات، وقد انطلق الرجل في نشاط كبير ومتواصل من دون كلل أو ملل أو شكوى، ولم يكن عمله مقتصرا في المدرجات والفصول وإنما كان بيته لا يخلو من زيارة باحث أستاذا أو طالبا أو مستفيدا وأحيانا يمتلئ بيته بمختلف الزوار من أهل العلم والأدب.. كما أن نشاطه العلمي امتد إلى جميع جامعات المغرب، بل إلى مدن أخرى لم تكن بها جامعات، يستجيب إلى دعوات جمعيات ثقافية وأدبية بها، كما أنه كان كثير الأسفار إلى خارج المغرب لحضور الملتقيات والمؤتمرات والاجتماعات من دون إخلاله بواجباته التي تشهد أنها كانت أكثر مما يُطلب منه، إضافة إلى حضوره العلمي الكبير في مباريات الالتحاق بهيئة التدريس بالجامعة أو بسلك تكوين أساتذة الجامعة، أما إشرافه على الرسائل العلمية فكانت فرصة عظيمة لإعداد الباحثين وتوجيههم.
ومن ألمع من تخرج على يده: الدكتور حسن الأمراني، الباحث الشاعر ورئيس قسم اللغة العربية بوجدة، والدكتور محمد الدناي الذي لازم شيخه عبد الله الطيب ونال من علمه حظا وافرا وغير هؤلاء، وكان في دروسه يستفيد طلاب العلم على اختلاف مستوياتهم بمن فيهم الأساتذة”.
هذا بعض ما ذكره أستاذنا الدكتور عبد السلام الهراس عن صديقه عبد الله الطيب، وهو غيض من فيض مما كان يمكن أن يدونه، لولا أن شيخنا الهراس كان من العلماء الذين يحرصون على نقل معارفهم شفهيا إلى تلاميذهم ومريديهم أكثر من حرصه على التدوين، على ما خلف من كتب ومحاضرات منشورة. وقلما تزور الشيخ عبد السلام فلا تجد عنده علما من أعلام الشرق والغرب، فتغرف من جلسته علما لا يجتنى من الصحف، كما قال أبو نواس في خلف الأحمر:
كنـــــا متــى مـا ندْنُ منه نغترفْ
روايـة لا تُجتنــــى من الصّحـفْ
وتلك ميزة عظيمة، يشترك فيها الشيخان: عبد السلام الهراس وعبد الله الطيب.
وإلى حلقة قادمة إن شاء الله تعالى.
يلتقطها أ.د. الحسن الأمراني