بعد الحمد والثناء على المولى وبعد الصلاة والسلام على أشرف المرسلين وسيد الخلق أجمعين، هذه مذكرات ووصايا أوصي بها نفسي وغيري من الأهل والأصحاب والإخوة، وهي مجموعة آيات قرآنية في وصايا ثلاث:
الوصية الأولى: هي وصية بالتدبر والتفكر في عظمة الخالق واستحضار معيته وربط الصلة به على الدوام وفي جميع الأحوال بأداء الفرائض والواجبات وامتثال الأوامر واجتناب المنهيات، وبالشكر على النعم التي لا تعد ولا تحصى، والتأمل في خلق الله وآياته المتعددة مصداقا لقوله تعالى: إن في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الاَلباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والاَرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار(أل عمران: 189).
كل هذه الآيات وغيرها تتجلى بنورها وضيائها في الكون وفي عظمة خالقه وفي خلق السماوات والأرض بغير عمد، وفي خلق الإنسان وخلق جميع الكائنات الحية سواء منها ما يدب على الأرض أو يسبح في أعماق البحار أو يحلق في الفضاء. ويتجلى هذا النور وهذا الضياء كذلك في آيات القرآن العظيم والذكر الحكيم الذي هو كلام رب العالمين والمعجزة الخالدة لخاتم الأنبياء والمرسلين سيد الأولين الآخرين والخلق أجمعين سيدنا محمد . هذا القرآن الذي يقول الحق سبحانه وتعالى في حقه وفي حديثه عن تسبيح الكون والكائنات: لـــــو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الاَمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون(الحشر: 20).
وقوله تعالى: يسبح له السماوات السبع والاَرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم انه كان حليما غفورا(الإسراء: 43).
وقوله: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا وأن الذين لا يومنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما(الإسراء: 8).
وعن أسرار هذا القرآن وعجائبه وإعجازه وحقائقه الكونية والعلمية التي لا تقف عند حد ولا تنتهي إلى عد أبدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها يقول الحق سبحانه وتعالى: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا(الكهف: 108).
ويقول تعالى: ولو اَنما في الاَرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم(الكهف: 108).
بهذا الإعجاز وبهذا البيان يكون الخطاب القرآني قد أحاط في هذا الكون بكل شيء بيانا وتفصيلا ولم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وغاص في أغوار معانيها خصوصا كلما تعلق الأمر بقضية الإيمان والكفر وبحقيقة الموت والحياة وبمصير ومآل الأمم السابقة في العصور الغابرة. فهو منهاج حياة متكامل شامل وجامع يهتم بحياة الفرد والجماعة في جميع مراحلها من العلاقة الزوجية إلى العلاقات الدولية.
الوصية الثانية: وهي وصية بتقوى الله وبمحبته وطاعته وطاعة رسوله، ولا يتأتى ذلك إلا باتباع الهدي النبوي الشريف من أجل الفوز والنجاة في الدنيا والآخرة مصداقا لقوله سبحانه وتعالى:
ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما(الأحزاب: 69).
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم(آل عمران: 30).
يا أيها الذين امنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم(الأنفال: 23).
وهذا رسول الله يقول: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى». قيل ومن يأبى يا رسول الله. قال: «من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى».
فنجاة الإنسان وفوزه في الامتحان وربحه للرهان في الحياة الدنيا يكون على قدر استقامته في الحياة وخشيته لخالقه واستعداده للقائه، ولا يتأتى هذا الفوز كذلك إلا بدخول الجنة والنجاة من النار مصداقا لقوله تعالى:
وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى(النازعات: 39).
فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور(آل عمران: 185).
فالدنيا دار للمرور وجسر للعبور لا دار قرار واستقرار، وهي مزرعة للآخرة، ودار تكليف لا دار تشريف، ودار امتحان وابتلاء وعناء لا دار جزاء وسكون وهناء، فأولها بكاء، ووسطها عناء، وآخرها فناء، وقد صدق من قال:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
إلا التي كان قبل الموت يبنيها
انظر إلى من ملك الدنيا بأكملها
هل راح منها بغير القطن والكفن
الوصية الثالثة: وهي وصية بمراقبة ومحاسبة النفس في القول والعمل والسر والعلن، والاستعداد في كل لحظة للقاء الله تعالى والوقوف بين يديه يوم العرض عليه، وهذا ما يؤكده القران الكريم ويذكر به في مجالات مختلفة ويحث عليه في آيات عديدة وبمعاني متعددة في سياق حديثه عن يوم العرض على الحق وعن أعمار الخلق التي لا تزيد ولا تنقص على أجلها المحدد في قوله تعالى:
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون(البقرة: 279).
ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد(آل عمران: 8).
يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه(الانشقاق: 5).
يا أيها الذين امنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله بما تعملون خبير(الحشر : 17).
ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء اجلها والله خبير بما تعملون(المنافقون: 9).
يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية(الحاقة: 18).
لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا(الكهف: 47).
أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب(الزمر: 8).
يقول أحد الصالحين: “دخلت على الشافعي في مرض موته فقلت له كيف أصبحت؟ قال أصبحت من الدنيا راحلا، وللإخوان والأحباب مفارقا، ولسوء عملي ملاقيا، ولكأس المنية شاربا، وعلى الله واردا، فلست أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنئها أم إلى النار فأعزيها”.
فيا سعادة ويا فرح وفوز من تزود لآخرته بصالح الأعمال، وثقلت موازينه بحسنات البر والإحسان، ويا سعادة من رزق الإيمان فيسعد بإيمانه ولو فقد كل شيء، ويا شقاوة وخسارة من فقد الإيمان فيشقى بخسرانه وخسارته ولو ملك كل شيء، ويا سعادة من ثبتت قدماه في المرور على الصراط فيضاء له على قدر استقامته في الحياة.
نسأل الله تعالى أن يثبت أقدامنا على الصراط وألسنتنا على الحق عند سؤال القبر، وبالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا من المؤمنين الصادقين ويرزقنا الإخلاص والصدق في القول والعمل وفي السر والعلن ويوفقنا لصالح الأعمال ويجعلها خالصة لوجهه الكريم لا رياء ولا سمعة فيها، ويجعل أحسن أعمالنا خواتمها وأحسن أيامنا يوم لقاءه والحمد لله رب العالمين
ابن عطية الأندلسي عبد الحق