مهما تعددت الأمراض والعلل والاختلالات التي يشكو منها مجتمعنا المغربي -شأنه في ذلك شأن سائر المجتمعات المندرجة في دائرة العروبة والإسلام- ويصعد جراءها زفرات عميقة، وأنينا مروعا يعكس مقدار الآلام والأوجاع التي تخترق أوصاله، بل وتنفذ إلى سويدائه، فإن المرض الذي يتصدر كل تلك الأمراض، رغم شراستها ووبالها، وما تخلفه من خسائر وفواجع، وانكسارات وتصدعات في كيان المجتمع، وحياة الناس على اختلاف شرائحهم وطبقاتهم، هو مرض الفصام، لسبب واضح وبسيط، هو كون ذلك المرض نتاجا وبيلا لمجمل تلك الأمراض جميعا، فهو يمثل ذروة الاختلال، أو الدرجة القصوى من التفكك والانحلال، الذي يصيب النفوس بالإنهاك، ويهددها، في حالة التمادي والاستمرار، بعاقبة الفناء والاضمحلال، عبر تآكل القدرة على المقاومة أو إيقاف زحف جراثيم الداء، وعوامل الوباء.
إن المفروض في الذات الفردية أو الذات الاجتماعية لتكون في حالة الصحة والتوازن والسواء، أن تقوم مكونات كل منهما على التماسك والانسجام، وعلى الوئام والسلام، كما أن هذا الانسجام المتمثل على مستوى كل من هاتين الذاتين أو هذين الكيانين على حدة، لا بد من أن يجد صيغته العليا وتجلياته القصوى، في التجاوب العميق فيما بينهما، فيما يشبه الروح العام، الذي يهيمن على المشهد العام، بجميع تفاصيله وتجلياته. ويصح هنا أن نقتبس من القاموس القرآني مصطلحا كفيلا بوصف هذا المشهد الناصع، إنه الكلمة السواء، أو ضميمة الدخول في السلم كافة، أما إذا كان وضع كل من الذاتين (الذات الفردية، والذات الاجتماعية) خاضعا للتضارب والانقسام، والتصارع والاختصام، فإن ذلك لابد أن يؤول إلى الانفصام الذي جاء الإسلام ليحرر منه الفرد والمجتمع على حد سواء، وليفتح الباب على مصراعيه لإقامة حضارة الإنسان الراشد والرشيد الذي يفي بشروط الاستخلاف، وتتحقق عل يديه عوامل إسعاد الإنسانية جمعاء.
وبيان هذه المعادلة الصعبة التي يؤطرها الإسلام على أساس الفطرة ووحدة الخلق المعبرة عن وحدة الخالق ، هو أن شروط الوجود الثقافي، لا بد أن تكون شروطا سليمة، بحيث تمثل مجالا حيويا، وأرضا خصبة تنمو فيها شجرة الفطرة وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ومن طبيعة الأمر، أن يكون ذلك الأكل هو كل ما يقدمه الإنسان على مستوى العطاء الحضاري، من ثمار ومنتجات وإبداعات، ترتقي بإنسانية الإنسان، وتفتح أمامه آفاقا رحبة للتألق والازدهار، والتدرج في مدارج السمو الروحي، وذلك لا يتأتى إلا عن طريق الاستجابة لأمر الله تعالى التي تمثل جوهر الحياة الحق، مصداقا لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(الأنفال: 24). فمن عجيب أمر الله أن النجاح في تجسيد المعادلة الصعبة الآنف ذكرها وتحقيقها على صعيد المجتمع الذي رضي بالإسلام دينا، يكون هو عين الحياة، ولن تتأتى الحياة خارج نطاقه أبدا، إلا أن تكون حياة منكرة على غرار تلك التي ورد ذكرها في سياق وصف بني إسرائيل، في قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ(البقرة: 96).
ولن تعوزنا الوسيلة، عند اغترافنا من كنوز القرآن، واسترشادنا بجهازه المصطلحي المنير، لنضع أيدينا على ما يعبر أبلغ تعبير، ويصف أدق وصف، نوعية المعيشة التي ينتفي في ظلها تحقيق المعادلة الذهبية المتمثلة في إيجاد التوافق والانسجام، بين وجود الإنسان وحركته على هذه الأرض، وبين مراد الله المتمثل في تطبيق شرعه الحكيم، إنها «المعيشة الضنك»، فمما لا شك فيه، أن هذه المعيشة المتسمة بالبؤس والانحطاط والانكدار والاختناق، هي عين ما تمثله تجليات أو إفرازات الفصام.
يمكننا الاستنتاج مما سبق، أننا أمام فصامين: يتسم أحدهما بطابع قسري، وهو الفصام بين شرع الله ، وبين حركة المجتمع، والحيلولة دون خضوع هذه لذاك، و يتسم الثاني بطابع تلقائي حتمي، يتمثل في فعل التمزيق الذي يخلفه النوع الأول على شخصيات الأفراد وشخصية المجتمع، فلا مناص من حدوث الآثار التدميرية التي يتركها هذا النوع من الفصام النكد على مستوى البناء النفسي والاجتماعي، فنكون أمام ظواهر نفسية واجتماعية بالغة التعقيد والشذوذ، تتمثل في الاكتئاب والاضطراب، وازدواجية المعايير والسلوك، ومن ثم نكون أمام مجتمع مريض منكوب، محروم من الشعور بالسعادة والرضا، مجتمع يغلب على أفراده الشعور بالقهر، يستوي في ذلك المترفون والمعدمون، وما بينهما من فئات وشرائح.
وستظل مجتمعاتنا ترسف في أغلال هذا الفصام النكد والمقيت، إلا أن تقوم في المجتمع عملية جذرية شاملة تستهدف تحطيم تلك الأغلال، وتذويب حلقاتها العاتية، من خلال أوبة صادقة إلى رحاب الإسلام، ومعانقة ميثاقه، وتجديد العهد مع الله ، عبر استراتيجية شاملة ومحكمة تقوم على التخلية والتحلية، وتستمد قوامها من الجمع بين تلاوة الآيات، والتزكية وتعليم الحكمة مصداقا لقول الله : هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّين رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ(الجمعة: 2).
د. عبد المجيد بنمسعود