ونكتب الشّعر، ونحبّ الشعراء وتنتشي أنفسنا به وبهم، ونحن نقرأ القصائد القديمة ونتوقّف عند حياة أصحابها ومنشئيها، تلبسنا الأطلال ونشوة الخلود مع المعلقات، والمجون والإغراق في الجسد مع عمر بن أبي ربيعة والأحوص، والحكمة والزهد مع زهير بن أبي سلمى والمتنبي وأبي العتاهية، والتشاؤم والتذمر مع أبي ذؤيب الهذلي وأبي العلاء المعري، والبكاء على المدن مع ابن هانئ الأندلسي وابن نباتة، نرحل بعيدا هناك حيث القصائد ممتدة في أعراق البشر، لنسأل سؤالا وجيها. لماذا يكتب الشعراء؟ وهل الشعر غواية يتفنّن في تحسينها من رشّوا بماء عبقر؟.
تطلّ من بعيد أم جندب وخنساء صخر، والفارعة ورابعة العدوية وليلى الأخيلية، وولاّدة بنت المستكفي وعائشة الباعونية وعليّة الجعاّر وعاتكة الخزرجي وكثيرات هنّ ممن عشقن سحر الكلام ليؤكّدن أنّ الشعر أنفاس إنسانية يعتّقها الكلام، ويحرسها وجد الداخل المليء بالإحساس، حتى إذا خان هذا الإحساس صاحبه خرج الشعر إلى عالم الناس باهتا لا يكاد يُقرأ أو يُحتوى أو يَعيش.
أشعارنا أنفاس، فإذا خان النّفس، خان الشعر كل تسابيح الكلام المغلّفة بالنّور ولبس ثيابا قشيبا تباهى به من جعل من الكلمات المبتذلة والنابية والمرذولة سيرته في حكايات الإبداع.
فهل يتفرّد الشاعر لمجرد الكتابة بأوزان وصور وأفكار عُشْبِيّة، أم أنّ معطى الفرادة والإبداع يرتبط بخيط رفيع يؤسّس لحركية إنسانية تضمن توهّجها حين تُحرِّك دلالات إلاّ في خطاب الاستثناء، وتنفتح على رؤيا الإنسان والكون والحياة الموصولة بقوله : {والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
مساحة “إلاّ” الاستثناء حكاية وحكاية ومساحة “إلاّ” الاستثناء أيضا غواية وهداية، وبين الغواية والهداية حدّ اسمه الإيمان، ميزان الله العادل في تصنيف شعر الغواية وشعر الهداية، هذا الأخير الذي إذا وقر الإيمان في قلب صاحبه، تحرّك القلم ليكتب النّافع والرّاقي والسامي والجميل، يباركه في ذلك ملاك الشعر الذي أعتقد بوجوده مؤازرا للشاعر المؤمن تماما كما آزر روح القدس حسان بن ثابت وهو يهجو كفار قريش.
ليست “إلاّ” أداة عابرة في سورة الشعراء، إنها أداة التأكيد على وجود شاعرين في عالم الشعر يكون كلاهما قائدا للعامّة بما يقول مع فارق في حمولات الطرفين.
إنّ موطن اتّزان الشاعر في اعتقادي مشفوع بالإيمان، فإذا سقطت الصفة سقط الشعر وأصبح مربكا يؤسس للغواية. فيحمل الشاعر على القدح والقذف والابتذال وهتك الأعراض.
طريق الشعر وعر لا يسلكه إلاّ العارفون، فإذا خاض فيه الكل فقد بريقه، وتكالب عليه الواهمون لا يشدّهم للقول هدف أو بعد أو مقصد، وإنّما متاه الطريق المورق بوهم الهدف ووهم المقصد ووهم البعد المغلّف بتضخم الأنا أين يسكن شيطان الشعر، ويعثو فيه فسادا.
الخيال جميل، وتوسيع التخييل أجمل، ولكن حين يكون التخييل ابتذالا، تنتهي نشوة الشعر ونشوة قرضه، ويصبح عبقر هنا أسوء قرين لأنه يصدر لنا شاعرا لا يضيف للبشرية ما يوسع مدارك الإحساس بقيمة الحياة، وقيمة الوجود وقيمة الإنسان، وإنّما يفتح باب الشك فيما يفكّر وفيما يعتقد وفيما يأمل، ويصبح محاصرا بوساوس تزهّد الناس فيه، أو تدفعهم لأن يغرفوا من أودية الهوى والعبث ما يجعل من الكلمة خطايا لسان يتحرك فيها الفراغ وينتشي فيها الكذب ويبحر فيها الغواة حيث لا حد فيها لشاطئ، ولا قيد فيها لمكان، ولا وجود فيها لإنسان تزهر بنفحات وجوده الأكوان.
فهل نحتاج في ظل هذا الهرج الشعري الذي يلفّ عالم الكتابة اليوم إلى تفعيل فكرة شعراء الاستثناء؟
دة. ليلى لعوير