من خصائص الإسلام أنه دين شامل كامل، يسعى إلى تحقيق العدل، والمحافظة على الحقوق. كما أنه دين يدعو إلى الفضائل والمحامد، وينهى عن الظلم والفساد. وحين يغيب هذا الفهم السليم للدين من حياة الناس، فيهجرون أحكامه، ويتنكرون لتعاليمه، ويدنسون قيمه، يشيع الفساد في مناحي الحياة، وحينذاك يظل الإسلام منهجا وحيدا للإصلاح، ومعالجة مظاهر الفساد في الأرض. وحين يعم الفساد في المجتمع يصبح النهي عن المنكر فريضة واجبة على كل إنسان قادر على الإنكار، وقد يكون الشخص ذاتيا، وقد يكون المنكر شخصا معنويا: مؤسسة أو هيئة أو نُخبا، وهو ما يصطلح عليه في الأدبيات الحديثة بالإصلاح والتغيير، ومن ثم كان إصلاح الفساد أمانة في أعناق المصلحين الذين يغارون على حرمات الدين.ومن الأمانة أيضا القيام بواجب الإصلاح، بالدعوة بالتي هي أحسن على بصيرة ووعي، قال تعالى: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني (يوسف: 108).
والإسلام يقرر حقيقة واضحة لا تقبل التأويل، ولا سوء التنزيل، وهي أن هجرَ الدين وإقصاء تعاليمه، أو التثاقلَ في تنزيله أو صَبْغَه بغير صبغته الربانية، مآلُـه استشراء الفساد بعناوينه المختلفة: اقتصادية كانت أو تربوية أو سياسية أو ثقافية…. وحين ينظر المرء إلى واقع الأمة لا يسعه إلا أن يلحظ مظاهر الفساد في الأرض التي عمّت، فهل يتعايش الإسلام مع الواقع الفاسد، أم يستنهض الهمم لإصلاح ما فسد؟ إن النهوض بعملية الإصلاح هي الأمانة التي ناءت بحملها السماوات والأرض والجبال، فأوكلها الله إلى الإنسان. وحين يريد الإنسان إصلاح الواقع الفاسد تتعدد السبل، لكن شتان بين من يسلك منهجا شاملا في الإصلاح، وبين من يختصر قضية الإصلاح في جانب دون آخر، بل شتان بين من يراهن على الأمة في الإصلاح، ومن يراهن على الدولة بمفهومها السياسي، وشتان بين من يلقي بثقله ويرمي بجميع أوراقه في جانب جزئي فيستغرقه، وبين من يتفاعل مع الإصلاح بقدَر معلوم، وشتان بين من يستفرغ الطاقات كلَّها في استيعاب منظومة الدولة المعقَّدة، بفعل حجم المفهوم السياسي لمفهوم الدولة في عصرٍ تضاءل فيه مفهوم الدولة، بل تجاوز معايير: الجغرافيا البشرية والطبيعية، والهوية التاريخية، وبين من يمتلك الوعي بقيمة الأمة باعتبارها الخيار الأقوم في الإصلاح والتغيير. ولذلك حين يغيب هذا الوعي، تختل معه أيضا مفاهيم الدولة والأمة، وتصبح الثوابت الشرعية والثقافية محلّ مساءلة، بل وانتقاصا أحيانا من مشاريع الإصلاح التي ترفع شعار الأمة مقابل الدولة، وتروج بهذا الفهم مفاهيم طارئة من قبيل الخصوصية، والنموذج، والاستثناء، كل ذلك تحت مسمى الإصلاح. من هنا تكمن المخاطرة في حشر جهود العاملين للدين في اتجاه واحد وقد “يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه”، ومن ثم فإن مطلب الإصلاح يقتضي الإلمام الواقعي بالمشكلات الجوهرية التي أدت إلى الفساد، ومحاولة تجاوزها من خلال منهج شامل يستحضرُ الأسباب، بقراءة ثاقبة للواقع الفاسد، في ظل المتغيرات المحلية والعالمية، ويربطُ الإصلاح بالمقاصد الضرورية، لا بمكاسب دنيوية مغرية سرعان ما يخبو بريقها، فتُفوّت فرصا هامة من حيث الزمن والنتائج. إن القارئ للكتاب العزيز يلحظ كيف قام بتشريح مظاهر الفساد بأبعادها العقدية والخلقية والاقتصادية، وكيف أرشد إلى المنهج الشامل لإصلاحها. وكان أفضل من حمل مشعل الإصلاح والتغيير هم الأنبياء الله عليهم السلام، الذين كانت دعوتهم نبراسا ينير سبيل الدعاة والمصلحين على مدى التعاقب البشري، وكان من مميزات هذه الدعوات السعي لإصلاح الفساد من منطلق الولاء لله ، وإصلاح العقيدة وحمايتها من الانحراف والضلال، والخضوع بالعبودية لله رب العالمين، ولا يتحقق هذا المقصد العظيم إلا من مدخل إصلاح العقول بتنقيتها من الخرافات والضلالات وهذا المعنى هو المستقى من قوله تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلى يُوحَى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (الأنبياء: 25)، يقول ابن عاشور: “وليس ذكر هذه الجملة لمجرد تقرير ما قبلها من آي التوحيد وإن أفادت التقريرَ تبعا لفائدتها المقصودة. وفيها إظهار لعناية الله تعالى بإزالة الشرك من نفوس البشر، وقطع دابره إصلاحا لعقولهم، بأن يُزالَ منها أفظعُ خطل وأسخفُ رأي” (التحرير والتنوير17/49).
إن المتأمل في مسيرة الأنبياء عليهم السلام يدرك أنهم أول من قاد سفينة الإصلاح والتغيير، لكنهم ظلوا في دعواتهم مشدودين إلى البعد العقدي في عملهم الإصلاحي. والقرآن الكريم حين يقصّ قصصهم مع أقوامهم، يبيّن كيف كان هؤلاء الأنبياء عليهم السلام منشغلين بقضايا الفساد في مجتمعاتهم، فكانوا يستنكرون مظاهرها المختلفة، لكنهم لم يستفرغوا الجهد كلَّه بالنهي عن الفساد الجزئي الذي تُجلّيه مظاهر الاعتلال بحسب طبيعة كل وفساد، وإنما كانوا ينهون عن الفساد في الأرض، ويسعون إلى الإصلاح من خلال ربط هذا العمل بالولاء لله ، فتصحيح العقيدة كان الهمّ الأساس، ولقد أكد القرآن هذه الحقيقة، في قوله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت (النحل: 36)، وكان شعار دعواتهم قول الله تعالى: إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون (1) وردت هذه الآية ست مرات في سورة الشعراء في الآيات107-125-143-162-178 في حق نوح و هود و صالح و لوط، و شعيب عليهم السلام، و في سورة الدخان في الآية 18 في حق موسى . والمعنى أنّ في دعوة الأنبياء وحدة القصد والهدف، وتعدُّد الوسائل بتعدّد مظاهر الفساد، لا من أجل إصلاح ظرفي يستهدف استئصال الفساد المستشري الآني فقط، ولكن في إطار ربط الإصلاح الجزئي بالتغيير الشامل في المجالات المختلفة: فحين يغدو الفساد كفرا وشركا يصبح الواجب تصحيح هذا الواقع الكفري، فتكون الدعوة ملحّة لتطهير النفوس من لوثة الشرك بتجلياته المختلفة، قبل الانشغال بمظاهره الظاهرة، ولذلك لم تكن الأصنام بأشكالها البارزة، وأعدادها الكثيفة هي الشغلَ الشاغلَ لإبراهيم ، وإنما كان الهمُّ تحطيمها في القلوب، حَطّم إبراهيم أصناما ظلوا لها عاكفين،لإيقاظ القوم من السَّكْرة والغفلة، دعوةً لهم بالحجة والبرهان العقلي إلى إفراد الخالق بالعبادة، قال تعالى: قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضرُّكم أفٍّ لكم ولِما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون (الأنبياء: 66-67).
وهذا نبي الله صالح توسّل في الإصلاح بِلَفْت النظر إلى شيوع الترف والبذخ والتكبر، فنهض بالقول: أتتركون في ما هاهنا آمنين في جنات وعيون وزروع ونخلٍ طَلْعُها هضيمٌ وتنحتون من الجبال بيوتا فَرِهين فاتقوا الله وأطيعون (الشعراء: 146-150). وحين أراد هود أن يعالج ظاهرة الاستبداد السياسي والطغيان وما يتبعهما من ظلم، كان المسلك عقديا، فقال منبِّهاً قومَه إلى طبيعة الفساد: أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانعَ لعلكم تخلُدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون (الشعراء: 129-131).
وفي تجربة نبي الله لوط وقد أُرسل إلى قوم شاعت فيهم الفاحشة المصادمة للفطرة، فكان المدخل للإصلاح هو الأمر بالكفّ، قال تعالى: إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري على رب العالمين أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون (الشعراء: 161-166). وقوم آخرون، كان لهم قصب السبق في التأسيس للفساد الاقتصادي، فكانت جريرتهم التطفيف في الميزان، فجاءهم شعيب ينهاهم عن هذا الفساد ويذكّرهم بالله ولزومِ تقواه، قال تعالى: إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقُسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين (الشعراء: 177-183).
وكذلك كان شأن النبي الكريم في بداية دعوته، في مرحلة كان فيها المسلمون مستضعفين في الأرض تعوزهم سبل التمكين يخافون أن يتخطّفهم الناس قبل أن يُؤويهم الله بنصره ويرزقهم من الطيبات، لم ينشغل بمظاهر الفساد العقدي وتجلياتها الصنمية بالرغم من كثرتها في الواقع، بقدر ما كان يريد تنقية النفوس من شوائب الضلال
العقدي، من صنمية تشكلت في النفوس، ولم ينشغل بالمساومات التي ظلت أسلوبا متكررا مسايرا في كل عصر للإلهاء عن الأهداف الكبرى، في زمن المقايضة الماكرة “نعبد إلهك عاما وتعبد آلهتنا عاما”، ولم تُـثْـنِه المغريات والمكاسب الآنية من مال وجاه ومنصب وسلطة، بل ظلّ متطلعا إلى التغيير المتدرج الشامل، لأنه –وهو المسدَّد بالوحي- يعلم أن قضية الإسلام هي أكبر من أن يحسمها منصب مغرٍ أو مغنم مُكثر، أو مكسب مُبهر، لأنها قضية ولاء في كل مناحي الحياة لله ولشريعته، ودون تحقيق هذا الهدف الكبير معاناة ومصاعب وصبر وعمل.
د . كمال الدين رحموني