للأسف من الآفات التي تصاب بها الأمة أن تتحول العبادات إلى عادات وطقوس (فولكلورية)، وتتحول خطبة الجمعة إلى عمل روتيني وكلام عام وأداء صوتي رتيب، تراعى فيه علامات الترقيم، والحركات الإعرابية الشكلية بدون مضمون حقيقي. مما يجعل الخطبة؛ خطبة ميتة لا روح فيها؛ تحفة تراثية من موروثات الزمن الماضي، خطبة لا تختلف عن خطب قرون قد خلت، خطبة في مدينة لا تختلف عن خطبة في قرية صغيرة. تتساوى خطبة تلقى أمام أهل علم وفكر، مع خطبة تلقى أمام العوام. تدخل للمسجد فتجد الخطيب يتحدث عن الوضوء والطهارة، أو عن واقعة مثل الهجرة وغار ثور بغير استنباط للدلالات والعبر أو يتحدث عن السواك والكحل، فيشرد ذهنك أو يراودك النوم، لضعف تناول الموضوع، وضعف التفاعل الصادق مع مضمون الموضوع.
والسبب في هذا الخلل هو عدم فقه حقيقة الخطبة! أو لأن الخطيب غير كفء! أو لأن البيئة ذاك مرادها! فما هي شروط إنجاح خطبة الجمعة؟
شروط نجاح الخطبة:
خطبة الجمعة منبر دعوي هام، ووسيلته فعالة لتذكير الناس بأمور دينهم، وتوعيتهم بأحوال زمانهم، وتبصيرهم بالموقف الشرعي من نوازلهم وقضاياهم. وحتى يوظف الخطيب منبر الجمعة الاستثمار الأكمل والأحسن، عليه أن يراعي شروطا أساسية لابد منها لتبرز شخصيته في الأمة، وتجعله محل ثقة ومحبة، وإعجاب وتقدير، وبإجمال، لضمان نجاح رسالته. ذلك أن الخطاب يحتاج إلى مقومات مختلفة ليلقى القبول، لذلك ما كان من نبي الله موسى وهو يستعد لمخاطبة فرعون إلا أن: قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي (طه: 25-27).
أولا: الشروط الذاتية
وهي الشروط المتعلقة بذات الخطيب وشخصيته التي منها:
1 – الإخلاص: وهو روح الأعمال وجوهرها، فبعد الدافع النفسي أي: الرغبة، يأتي الأساس العقدي الذي هو النية الخالصة في امتثال أمر الله، وقصد طاعته، وابتغاء مرضاته. والإخلاص مطلب عزيز، وغاية صعبة المنال، تحصل بالمجاهدة، والتضرع إلى الله، حتى ولو كانت تلك وظيفته التي يقتات منها، وذلك لأن صاحب الرسالة يستفرغ كل طاقته في محاولة توصيلها للناس، لا يكل ولا يمل. والمشكلة الآن أن تصير الخطابة وظيفة فقط، مما يضيّع كثيرا من فوائدها.
2 – الفقه: من الشروط التي تجعل الخطيب ناجحا في خطبته، أن يكون له زاد علمي شرعي، وحصيلة معرفية شاملة. والفقه أقسام ثلاثة: فقه الدين، وفقه الواقع، وفقه التنزيل.
أ – فقه الدين: يتطلب هذا العمل الدعوي زادا من العلوم الشرعية، من القرآن الكريم تلاوة سليمة وتفسيرا. ومن الحديث النبوي الشريف حتى لا يكون المنبر وسيلة لنشر الموضوعات، والأحاديث الشديدة الضعف، أو المخالفة للأصول الشرعية. ومن الفقه الإسلامي، والتاريخ والسير.
ب – فقه الواقع: “إن كتاب الله وسنة رسوله الله يعطيان المثل في مواكبة الواقع علما به في دائرة ضيقة هي القرية أو المدينة أو القطر، وإن كانت مراعاة الأولويات مطلوبة، وإنما يمتد هذا المحيط ليشمل جميع مناطق وجود الإنسان المسلم…
وهكذا يكون المحيط الذي تمتح منه الخطبة محيطا مطاطا يتسع حتى يستغرق العالم، ويضيق حتى يقتصر على المدينة أو القرية، وهذا الضيق أو الاتساع تحكمه مستجدات وملمات تجعل الحديث عن هذه الجهة أولى من الحديث عن غيرها… وإذا كان مطلوبا من الخطيب أن يرتبط بمحيطه وبيئته فإن هذا يوجب عليه -دون شك- التزود بمعارف العصر والملاحقة لما يجد في بيئته من الأفكار. وهذه المتابعة والملاحقة تلزم الخطيب بالاتصال بوسائل الإعلام”. فمعرفة الناس والحياة أمر مطلوب من الخطيب لأنه لا ينبغي أن يتكلم من فراغ، بل في وقائع تنزل بالمجتمعات من حوله، وهؤلاء تؤثر في أفكارهم وسلوكهم تيارات وعوامل مختلفة: نفسية وثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، فلابد للخطيب أن يكون على حظ من المعرفة بأحوال عصره وظروف مجتمعه، ومشكلاته وتياراته الفكرية والسياسية والدينية، وعلاقاته بالمجتمعات الأخرى ومدى تأثره بها وتأثيره فيها.
فالخطيب الناجح والمؤثر هو ذلك الإعلامي الذي يعرف أخبار أمته فيقوم بإعدادها، وتبسيطها، وصياغة عرضها، إلى خليط من الناس مختلفي المنهل والمشرب. الخطيب الناجح محب ودود، يأْلف ويؤْلف، فلا يعزل نفسه عن الناس، بل يسأل عنهم، ويغشى مجالسهم، ويبارك أفراحهم، ويواسي مهمومهم. الخطيب الناجح يغشى مجلسه الكرماء، والصلحاء والبسطاء، فيعمر الحديث بالفكر والذّكر، فتحل بركة السماء في الزمان والمكان.
ج – فقه التنزيل: إلى جانب المعرفة الشرعية والمعرفة بالواقع يلزم الخطيب القدرة على تنزيل الأحكام الشرعية تنزيلا سليما على المستجدات والوقائع، وهذا يتوقف على فهم النصوص من جهة، وعلى إدراك مقاصد الشرع من جهة، وعلى إحسان القياس.
ولقد خطب النبي في الغزوات وفي شهر رمضان وفي الحج وفي ذم الغيبة وفي الولاة والعمال.
3 – إبلاغ أحكام الشرع: إن القضية المركزية لخطبة الجمعة هي الارتباط بالواقع وتتبع المخاطر التي تهدد الأمة للتحذير منها، والدلالة على أسباب النجاة منها للتشبث بها. قال تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (التوبة: 122). فالقرآن الكريم يؤكد على أن التفقه مسؤولية رسالية يجب أن تتحقق في العلماء، والإنذار مسؤولية رسالية من اختصاص العلماء –أيضا- بما هو استعداد لمواجهة الشعور بالخطر، وقد نبه القرآن الكريم إلى هذا الخطر في قوله تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة: 217). وانطلاقا من هذا التنبيه إلى الخطر نبه القرآن إلى ضرورة أخذ الحذر، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا (النساء: 71). وقال: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (التوبة: 122). وفسر الحذر بأنه بذل المستطاع في الاستعداد بالقوة فقال تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (الأنفال: 60). وهكذا يكون التنبيه إلى خطورة التهديد، أعطى التنبيه إلى الحذر، والتنبيه إلى الحذر فرض مسؤولية الاستعداد بالقوة. ويقاس على هذا تهديدات الغزو الفكري، والسياسات التي تستهدف هوية الأمة وثوابتها وغير ذلك، مما يلزم الخطيب التنبيه عليه، ولا يدفن رأسه في التراب صنيع اليمامة البلهاء.
4 – الخلق: وهو جماع الصفات النبيلة التي يلزم الخطيب أن يتحلى بها.وعن سهل بن سعد أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأُخبر رسول الله بذلك فقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم».
قال أحد العارفين قديما: “يا بني أظهر اليأس مما في أيدي الناس فإنه الغنى، وإياك والطمع وطلب الحاجات إلى الناس فإنه الفقر. وإذا صليت فصل صلاة مودع، واعلم أنك لن تجد طعم الإيمان حتى تؤمن بالقدر كله خيره وشره، وكن قائلا بالحق، عاملا به، يزدك الله نورا وبصيرة… ولا تخالط إلا عاقلا تقيا، ولا تجالس إلا عالما بصيرا… وأدم ذكر الله تنل قربه”.
5 – أساليب الأداء: إن أحسن الخطب يمكن أن يفسدها الأداء والإلقاء غير المتقن. فالخطبة تتطلب تفاعلا صادقا للخطيب مع ما يقول، بصوته وحركاته ونظراته وقسمات وجهه. وأن يقبل في أحاديثه على جمهور الحاضرين جميعا بحيث يشعر كل واحد من الحاضرين أنه المقصود بخطابه.
6 – المظهر: من عوامل نجاح الخطيب ظهوره أمام الناس بمظهر لائق وجذاب، فالله تعالى أوصى عموم المسلمين بالتزين عند كل مسجد بقوله سبحانه: خذوا زينتكم عند كل مسجد (الأعراف: 31). ومن باب أولى أن يكون الخطيب والإمام متحليا بذلك الوصف، وقد أوصى الحبيب المصطفى باللباس الطيب الطاهر، فعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله : «البسوا البياض فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم».
ثانيا: الشروط الموضوعية
وهي الشروط المرتبطة بالموضوع شكلا ومضمونا وأسلوبا وهي:
أ – من حيث الشكل:
1 – أن تكون وسطا بين الطول الممل، والاختصار المخل.
2 – وضع تصميم محكم للخطبة.
3 – التزام خطبة الحاجة.
4 – الدعاء في الختم.
ب- من حيث المضمون:
1 – الجمع بين الترغيب والترهيب، والخوف والرجاء، والتبشير والإنذار، وذلك في سياق التوازن العام للشريعة.
2 – معالجة مشاكل واقع الناس المعيش.
3 – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4 – الاستشهاد بالقرآن والسنة.
5 – التمثيل والاستشهاد بمواقف وأقوال من السلف والخلف.
6 – التركيز على موضوع واحد.
7- نشر مبادئ الإسلام، والموعظة الحسنة.
ج – من حيث الأسلوب:
1 – الوضوح.
2 – الفصاحة والبلاغة.
3 – اختيار الألفاظ الطيبة وتجنب كلام الشارع الساقط.
4 – البيان الشافي.
5 – العرض السليم.
وأخيرا فهذه اقتراحات للارتقاء بخطبة الجمعة إلى المستوى المنشود:
- عقد لقاءات تكوينية للخطباء والوعاظ.
- إحداث مادة فنون الدعوة ومناهجها في برامج التعليم.
- تـأليف كتاب منهجي في مهارات إعداد وفنون إلقاء الخطب والدروس والمواعظ.
- انتقاء أهل العلم الصادقين والحكماء من المثقفين لخطبة الجمعة.
والســــــــــــــــــــــــــلام.
د. محمد الحفظاوي