تقديم
باستقراء الآيات الواردة في القرآن الكريم والتي أشرنا إليها سابقا يتبين أن الأشياء الـمُورَثة التي أورثها الله لعباده والتي يرثونها عن بعضهم البعض -بإيراث الله تعالى لهم طبعا- إنما هي ثلاثة: وراثة النبوة والوحي، ووراثة الأرض، ووراثة الجنة. وهي مفاهيم دينية بامتياز، والسنن التي تحكم وراثتها وإيراثها سنن ربانية وموازين إلهية، كما أن هذه الأنواع من الإيراث ينبني بعضها على بعض، فيكون إيراث الدين وتوريثه أساسا وشرطا في إيراث الأرض والجنة معا، ومن ثم فلا حضارة إسلامية من غير أن يقوم المسلمون بتوريث الدين وعمارة الأرض على هديه.كيف ذلك؟
1 – وراثة النبوة وتوريث ميراثها هو الأصل في كل وراثة:
والآيات الدالة على ذلك ما يلي:
- قال تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ(النمل: 16).
- … فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً. (مريم 5-6).
فالآية الأولى أخبرت بوراثة سليمان لداوود، وهي وراثة نبوة وعلم وحكم ومنهاج -كما ذهب إلى ذلك أغلب المفسرين- إذ لو كان الأمر يتعلق بوراثة الأمور الدنيوية لما كان في الإخبار فائدة واختصاص وميزة؛ لأن كل الناس يرثون عن أصولهم ذلك. ودلت الآية الثانية على أن السؤال يتجه نحو طلب النبي زكرياء من يخلفه في وراثة النبوة وحفظ ميراثها والقيام به؛ لأن الأنبياء لا يورثون المال وغيره من الماديات.
وفي الآيتين دليل على أن الأنبياء كانوا مشغولين بتوريث دين الله تعالى لذريتهم، وكان ديدنهم تنشئتهم عليه ليستمر الدين قائما، ومما يعضده قول الله تعالى حكاية عن يعقوب : أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(البقرة: 133)، وفي وصية يعقوب فائدتان كبيرتان لهما صلة بالمطلوب:
أولاهما: أن الوصية لا تكون إلا بأعز كنز لأعز المقربين ولأشرف غاية، وأثمن كنز يملكه الأنبياء هو الوحي والنبوة، وأشرف غاية هي عبادة الله تعالى والظفر برضوانه.
ثانيهما: أن جواب الأبناء عن سؤال أبيهم/ الوصية كان جوابا موافقا للمراد ومطابقا له، إذ تضمن مفاهيم ورموزاً دينية إسلامية مثل مفهوم: (العبادة – الإله الواحد – أسماء الأنبياء – الإسلام)، ودل جوابهم على نتيجة عمل دؤوب للنبي يعقوب طيلة حياته في تلقين الدين الصحيح لبنيه وتوريثهم مبادئه وتوجيهاته ومقاصده وتوريثهم ميراث الأنبياء من قبله.
2 – وراثة الوحي وتوريث العلم به من أصفى النعم الربانية وأعلاها:
ورد في القرآن الكريم الإشارة إلى أن وراثة الوحي وتوريثه وتوريث العلم به في مواطن عديدة منها قول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا(فاطر: 32)
والآية تشير إلى جملة حقائق منها:
- أن الله هو وحده المورث كتابه ووحيه، فأصل الوحي من الله تعالى، وإيراثه خاص بالله تعالى. وهذه الحقيقة مرت معنا سابقا.
- أن إيراث الله تعالى كتابه هو محض نعمة من نعم الله تعالى ومن آثار العناية الإلهية في التسخير والتدبير والتيسير.
- أن إيراث الكتاب والدين للعباد هو من تمام الإنعام عليهم؛ قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْاِسْلَامَ دِينًا(المائدة: 3). وهو أحسن نعمة اختارها الله تعالى لعباده؛ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(البقرة : 122).
- أن من سنن الله تعالى في إيراث نعمة الدين والوحي اصطفاء من يصلح لها من عباده؛ لأن حمل الكتاب أمانة لا توكل ولا تسند إلا للأقوياء الأمناء؛ قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا وقال : إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(آل عمران: 33)، وقال الرسول : «إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وأورثوا العلم، فمن أخذه؛ أخذ بحظ وافر»(1).
3 – أن عباد الله تعالى بعد انقطاع الوحي تفاوتوا في حفظ أمانة ما أورثهم الله من الوحي، وعلى قدر هذا الحفظ يكون التمكين في الأرض وإيراثها.
يظهر من حديث القرآن عن الذين أُورِثُوا الدين أنهم أصناف من حيث قوة التمسك بالدين وحفظه أو عدمه:
أعلاهم مرتبة الأنبياء والرسل، فقد حفظوا الدين وبلغوه كما تلقوه وأنزل عليهم.
صنف ثان ممن بعدهم من العلماء والعاملين به والسابقين فيه بالخيرات، وهم الذين أنيط بهم حفظ الدين والذب عنه وتبليغه، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ(الأعراف: 170)؛ فوظيفة هذا الصنف هي وظيفة مزدوجة:
أولها القيام بحقوق الإيراث من التمسك بالدين والقيام بفرائضه وأركانه.
وثانيها توريث ذلك الآخرين وتحميلهم أمانة حمله وتوريثه أيضا، وإصلاح ما فسد في الأمة انطلاقا من ميراث النبوة والوحي؛ دليل ذلك من الآية كلمة “المصلحين”.
صنف ثالث مقتصد و”هو غير المبالغ في طاعة ربه وغير المجتهد فيما ألزمه من خدمة ربه حتى يكون عمله في ذلك قصدًا” كما ذكر الطبري في تفسيره للآية.
وصنف رابع ظالم لنفسه: هذا الصنف ورث الكتاب؛ لكنه لم يعمل به فضيع حدوده ولم يحفظ عهوده، وهو الذي عناه تعالى بقوله: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ ﻫذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا… (الأعراف: 169)، قال سيد قطب رحمه الله تعالى: “وصفة هذا الخلْف الذي جاء بعد ذلك السلف من قوم موسى: أنهم ورثوا الكتاب ودرسوه.. ولكنهم لم يتكيفوا به ولم تتأثر به قلوبهم ولا سلوكهم.. شأن العقيدة حين تتحول إلى ثقافة تدرس وعلم يحفظ.. وكلما رأوا عرضاً من أعراض الحياة الدنيا تهافتوا عليه، ثم تأولوا وقالوا: «سيغفر لنا».. وهكذا كلما عرض لهم من أعراض الدنيا جديد تهافتوا عليه من جديد!
وهذا نظير قوله تعالى في موطن آخر: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا(مريم: 59)” (في ظلال القرآن: سيد قطب).
وهكذا يظهر أن إيراث الدين هو أصل كل إيراث حضاري، فلا حضارة إسلامية من غير جوهر ديني، ولا جوهر لهذه الأمة من غير هذا الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، ولا وجود للدين ولا استمرار له من غير السهر على توريث ميراث النبوة والحرص على بقائه وتلقينه وتبليغه وغرسه بشروطه، وإعداد كل ما يلزم من العدد البشرية والعلمية والمنهجية والأداتية لإقامة أركانه والاستقامة على هديه وأحكامه.
يتبع
الطيب بن المختار الوزاني
—————–
1 – أخرجه ابن حبان في صحيحه، وابن ماجه، وأبو داوود، والدارمي وأحمد في المسند، والترمذي في سننه والطبراني.