تتحدد قيمة المجتمع انطلاقا من البنى الجوهرية المشكلة له، ولا يختلف اثنان في كون الأسرة من أسمى هذه البنى وأهمها على الإطلاق، وفي هذا الإطار تبنى الإسلام هذا النظام وأحاط بكل جوانبه ودفع به إلى بني البشر ليستغنوا به عن ما سواه من الأنماط الناقصة، فنظام الأسرة في الإسلام نظام مقدس، المراد منه تلكم الأحكام التي جاءت من عند الله لتنظم العلاقة بين الرجل والمرأة وما ينشأ عنهما، إذ هي بمثابة الخلية العضوية التي يتكون منها المجتمع، فبصلاحها يصلح المجتمع وبتشتتها واغترابها يصير المجتمع مترهلا ومفككا.
ارتبط بالأسرة في الإسلام العديد من التوجيهات والمقومات من قبيل الحث على الزواج، قال تعالى:وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم(النور: 32)، وكذا نفقة الأسرة وذلك في قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف(البقرة: 231) ويرجع أمر رئاسة الأسرة إلى الرجل، قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِم(النساء: 34)، وجاء ضابط الرئاسة في هذه الآية الكريمة مشروطا أولا: بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضوثانيا: وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِم، في حين تحل مسألة تربية الأبناء ضمن هذه المقومات محلا مركزيا وذلك لما للنشء من أثر مستقبلي على المجتمعات. قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة(التحريم: 6)، وهي كلها أركان هدفها الأساس خدمة المقصد الأسمى الذي ابتغاه الإسلام، وهو الحفاظ على النسل الإنساني من الاندثار، قال تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً(النحل: 72).
تتلخص فكرة البناء الأسري في كون “كتاب الله الخالد يفيض شرحا وتفصيلا… وهداية في كل شأن له علاقة بالأسرة ويقيمها على الوضوح الكامل حتى لا يدع مكانا فيها للتصدع… ولا يترك ثغرة يمكن أن ينفذ منها أحد لهدم هذا الأساس، ومثل هذا الإسهاب في بيان أمور الأسرة دليل على أهمية هذا الكيان ووضعه في المكان اللائق به، وذلك أنه أساس البناء الاجتماعي كله، فإذا ما تطرق إليه الخلل والوهن هوى البناء وضاعت معالمه”(1). وينتج عن ذلك كل مفسدة تعود على المجتمع بالويلات، حيث “إن البيت هو المؤسسة التي تدرب فيها كل سلالة أخلافها وتعدهم لتحمل تبعات التمدن الإنساني العظيمة بغاية من الحب والمساواة والتودد والنصح… فهذه المؤسسة لا تهيئ الأفراد لبقاء التمدن البشري ونموه فحسب، بل هي مؤسسة يود أهلها من صميم قلوبهم وأعماق صدورهم أن يخلفهم من هو خير منهم وأصلح شأنا وأقوم سبيلا… فالحقيقة التي لا تنكر في هذا المجال، أن البيت هو جذر التمدن البشري نفسه وقوته ومن ثم نرى أول ما يهتم به الإسلام ويعتني به من وسائل الاجتماع إنما هو أن يقيم مؤسسة البيت ويقرها على أصح الأسس وأقومها”(2)، ضمانا للعيش الكريم والسعادة الدائمة.
من خصوصيات الأسرة في المجتمع الإسلامي أنه “كان من تدبير الله لخلقه أن جعل للأسرة من الجاذبية والتأثير ما لم يجعله لأي مؤسسة مجتمعية أخرى، فقدر للناس جميعا رجالا ونساء، أن يعيشوا في أكناف الأسرة، التي كانت مأواهم الآمن الدائم الدافئ الذي يأوون إليه، ويأنسون به وفيه، ويسكنون إليه وفيه، كما جعل الله للأسرة تأثيرا في المجتمع، وهو تأثير اجتماعي وأخلاقي، لأنه يحدد نمط العلاقات فيما بين الشرائح وفيما بينها وبين الدولة، وعلى هذا الوضع شرع الله للناس تشريعات وأحكام تكفل لوظائف الأسرة الطبيعية تلك أن تتجه صوب كمالها المرجو وتحقق لها المصالح المعتبرة على أتم وجه وأحسنه فحصل بذلك التكامل بين خلق الله وأمره ألا له الخلق والامر(الأعراف: 53)، وأول ذلك، تشريعه الذي ضمن به لمن التزمه تأسيسا للأسرة باعتبار أن أي خلل يشوب مرحلة تأسيس الأسرة -وهي أخطر مرحلة من حياتها- يعود بالضرر على الأزواج والأسر والمجتمعات”(3)، وأول مرحلة هي الطلائع الأولى لمرحلة الزواج، هذا الأخير الذي ورد ذكره في القرآن الكريم لعظم شأنه كرابط يجمع بين رجل وامرأة على ما أحل الله لهما.
الزواج في الإسلام “هو الأسلوب الذي اختاره الله للتوالد والتكاثر واستمرار الحياة بعد أن أعد الله كلا الزوجين وهيأهما، بحيث يقوم كل منهما بدور إيجابي في تحقيق هذه الغاية لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(النساء: 1)، ولم يشأ الله أن يجعل الإنسان كغيره من المخلوقات، فيدع غرائزه تنطلق دون وعي، ويترك اتصال الذكر بالأنثى فوضى لا ضابط له، بل وضع النظام الملائم لسيادته، الذي من شأنه أن يحفظ شرفه ويصون كرامته، فجعل اتصال الرجل بالمرأة اتصالا كريما، مبنيا على رضاها، وعلى إيجاب وقبول، كمظهرين لهذا الرضا وعلى إشهاد على أن كلا منهما قد أصبح للأخر، وبهذا وضع للغريزة سبلها المأمونة، وحمى النسل من الضياع، وصان المرأة من أن تكون كلأ مباحا لكل راتع”(4). وهذا هو الهدف الأسمى من قضية الزواج.
لا قيام للمجتمع ونهضته إلا بالأسرة، “فالأسرة هي المؤسسة الأولى من بين المؤسسات الاجتماعية المتعددة المسئولة عن إعداد الطفل للدخول في الحياة الاجتماعية، ليكون عنصرا صالحا فعالا في إدامتها على أساس الصلاح والخير البناء الفعال، والأسرة نقطة البدء التي تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني، فهي نقطة البدء المؤثرة في كل مراحل الحياة إيجابا وسلبا، ولهذا أبدى الإسلام عناية خاصة بالأسرة المنسجمة مع الدور المكلفة بأدائه، فوضع القواعد الأساسية في تنظيمها وضبط شؤونها، وتوزيع الاختصاصات، وتحديد الواجبات المسئولة عن أدائها، وخصوصا تربية الطفل تربية صالحة وتربية سليمة متوازنة في جميع جوانب الشخصية الفكرية والعاطفية والسلوكية، ودعا الإسلام إلى المحافظة على كيان الأسرة وإبعاد أعضائها من عناصر التهديم والتدمير ومن كل ما يؤدي إلى شيوع البلبلة والاضطراب في العلاقات التي تؤدي إلى ضياع الأطفال بتفتت الكيان الذي يحميهم ويعدهم للمستقبل الذي ينتظرهم، وجاءت تعليمات الإسلام وإرشاداته لتخلق المحيط الصالح لنمو الطفل جسديا وفكريا وعاطفيا وسلوكيا، نموا سليما يطبق من خلاله الطفل أو إنسان المستقبل مقاومة تقلبات الحياة والنهوض بأعبائها، ولهذا ابتدأ المنهج الإسلامي مع الطفل منذ المرحلة الأولى للعلاقة الزوجية مرورا بالولادة والحضانة ومرحلة ما قبل البلوغ وانتهاء بالاستقلالية الكاملة بعد الاعتماد على النفس”(5). فالطفل ذو مركزية جوهرية في الفكر والتصور الأسري الإسلامي وفي العناية بمحضنه عناية مباشرة به.
الأسرة إذا مدرسة تربوية، سامية في مقاصدها نبيلة في غاياتها رائدة في بابها، فلا غنى للبشرية عن استلهام هذا النموذج الحضاري الإسلامي والاستفادة منه.
عصام عبدوس
—————
1 – منهج القرآن في تربية المجتمع، عبد الفتاح عاشور، مكتبة الخانجي بمصر، ط 1، 1399هـ/1979م، ص: 295.
2 – نظام الحياة في الإسلام، لأبي الأعلى المودودي، ص: 45-46، نقلا عن: منهج القرآن في تربية المجتمع، عبد الفتاح عاشور، مكتبة الخانجي بمصر، ط 1، 1399هـ/1979، ص:296.
3 – مقومات الأسرة في الإسلام، ذ. بهيجة الشدادي، وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية، المملكة المغربية، الدروس الحسنية، 1432هـ/2004م، ص:110.
4 – فقه السنة، سيد سابق، دار الكتاب العربي، بيروت لبنان، الطبعة الثالثة، 1397هـ /1977م، ج:2، ص:7.
5 – تربية الطفل في الإسلام، شهاب الدين الحسيني، الناشر: مركز الرسالة، ط 2، ص: 7-8.