شكلت عودة المغرب إلى منظمة الاتحاد الإفريقي حدثا بارزا عَبَّر عن نجاح في رفع كثير من التحديات التي كانت تقف في طريقه، كما جسد ثمرة جهود لتوجه جديد نحو إفريقيا حيث بدأت الدبلوماسية المغربية تضعه في قائمة أولوياتها في علاقاتها الدولية والإقليمية، كما جسدته مضامين الخطاب الملكي التاريخي مؤخراً في أديس أبابا.
ولقد كانت بوادر هذا التوجه حاضرة في العلاقات المغربية الإفريقية إذ سعى المغرب بكل ثقله في مرحلة الاستعمار وما بعدها إلى الارتباط العضوي بإفريقيا، وكان من أوائل المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية. كما كانت النخبة المغربية واعية بأهمية هذا التوجه، فقد كتب الدكتور عبد السلام الهراس في مجلة دعوة الحق سنة 1982 في عددي 222 و224 مقالا بعنوان: “المغرب والمسؤولية الحضارية” نبه فيه إلى ضرورة استعادة لمغرب دوره الريادي حضاريا، كما كتب في عنوان عمودِه “بارقة” بجريدة المحجة عدد 346 بتاريخ 1 نونبر 2010: “على المغرب أن يحافظ على ريادته لإفريقيا” ثقافيا وروحيا.
وإن توجه المغرب نحو إفريقيا يمثل حقيقة قفزة نوعية حضاريا وثقافيا واقتصاديا وإنسانيا.
- قفزة حضارية؛ لأن الرباط الحضاري الذي يربط المغرب بإفريقيا هو نفسه الرباط الذي يربطه بمحيطه العربي والإسلامي على حد سواء، وقد ظل المغرب عبر تاريخه حاضرا في إفريقيا، وإفريقيا حاضرة فيه علميا ودينيا واقتصاديا سواء بحكم ريادته أو بحكم سيادته. والقاسم المشترك الجامع بين المغرب وإفريقيا حضاري عميق في المكونات الدينية واللغوية والجغرافية وفي ما يهدد هذا العمق من تحديات. وبعد مرحلة الفتور والقطيعة والرهان على أوروبا يعود المغرب للمصالحة مع ذاته ومع عمقه الحضاري مصالحة سيكون لها آثارها الإيجابية الكبيرة على المنطقة في وصل الحاضر بالماضي وبناء المستقبل على ذلك.
- قفزة اقتصادية؛ لأن كلا من المغرب وإفريقيا في حاجة إلى بعضهما البعض، لاعتبارات عديدة:
أولها: وحدة المجال الجغرافي الذي هو القارة الإفريقية.
وثانيهما: التكامل النوعي والكمي في الثروات الطبيعية والخبرة البشرية.
وثالثهما: تجاوز عقدة الرهان على الاتحاد الأوروبي دون جدوى، والانتقال إلى تأسيس شراكات اقتصادية جديدة من شأنها إحداث أقطاب اقتصادية جنوب – جنوب قادرة على حل مشاكلها وتجاوز معضلاتها بإمكاناتها الذاتية.
- قفزة إنسانية بامتياز؛ لأن العلاقة مع الجوار الإفريقي علاقة إنسانية بامتياز، واستثمار إنساني خالص لرفع قاطرة النمو في هذه القارة المثقلة بالمعضلات الإنسانية في الماضي والحاضر، في الماضي كانت سوقا أوروبية للعبيد، وفي الحاضر تجمعت فيها وعليها مآسي الفقر والجوع والأمية والحروب والتخلف واستنزاف خيراتها مع أنها تملك أكبر مخزونات الثروات الطبيعية والطاقات البشرية عالميا.
وبناء عليه فالمغرب وهو يحقق هذه القفزات النوعية يزداد ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه، وتزداد رهاناته وطموحاته داخليا وخارجيا:
فعلى المستوى الداخلي يحتاج بلدنا إلى مزيد مما يلي:
- الحفاظ على مكتسبات التجربة المغربية الرائدة في الاستقرار والسلم الاجتماعي والأمن بجميع مكوناته ومستوياته.
- تعزيز مكونات الهوية الحضارية للمغرب وثوابتها الدينية للاقتدار على تجاوز كثير من تحدياتها، وللاقتدار على مواصلة إحياء النموذج الحضاري المغربي في علاقاته بإفريقيا.
- تعزيز مكتسبات التجربة المغربية سياسيا بتعزيز الحريات والكرامة الإنسانية للمواطنين. إذ بناء مجتمع عادل سياسيا شرط ضروري في العلاقات الدولية والإنسانية.
- تعزيز المكتسبات في مجال التنمية الاقتصادية ببلدنا؛ إذ نحتاج إلى مزيد من الجهود داخليا لرفع تحديات البطالة، وتحسين أوضاع كثير من الفئات الاجتماعية بإحداث مشاريع اقتصادية وبنيات أساسية فلاحيا وصناعيا وتجاريا كفيلة بتأهيل المغرب لأداء رسالته الإنسانية وأدواره الاقتصادية في عمقه الإفريقي وجواره العربي والأوروبي على حد سواء.
أما خارجيا فيحتاج المغرب إلى الحضور الفاعل في المؤسسات الدولية الإفريقية وغيرها بكل ما يعزز البعد الإنساني والحضاري الباني لمستقبل إنساني واعد يكون فيه للمغرب إسهام كبير وقوي، ولا يكون ذلك كذلك إلا ببناء داخلي قوي ومتين.
وختاما نقول إن عودة المغرب إلى إفريقيا أكبر بكثير من عودته إلى الاتحاد الإفريقي، وإن كان هذا لا يقل أهمية من حيث كونه مدخلا أساسا للعمل وفق المؤسسات الدولية والحضور الفاعل فيها ومن خلالها، لكن عودة المغرب إلى إفريقيا عودة ينبغي أن تحمل معها أبعادها الحضارية والإنسانية الواسعة والعميقة، ولا يكون ذلك ذا أثر كبير إلا بتقوية البناء الداخلي والحفاظ على المكتسبات، والسير قدما في تحقيق مزيد من المنجزات المادية والمعنوية الفردية والاجتماعية: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُومِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(التوبة: 105).
لذلك فالتوجه نحو إفريقيا ينبغي أن تحكمه الدوافع الإنسانية لإنقاذ الإنسان الإفريقي من معاناته التاريخية ماضيا وحاضرا، والتعاون الندي من أجل الكرامة والحرية. وقد جسد وعي المغرب بهذا الجانب حقيقة قفزة نوعية عجز عنها غيره؛ إذ كان علاج ملف الهجرة نحو أوروبا وإدماج الأفارقة في النسيج الاجتماعي والاقتصادي المغربي قفزة تستحق المباركة والتعزيز لم يجده الأفارقة إلا في المغرب شعبيا ورسميا على حد سواء.