تعد الخطب المنبرية أهم وسيلة اتصال مباشر بين الخطيب والسامعين، ولذلك أدت الدور الأكبر في تاريخ المسلمين، بل وفي تاريخ البشرية عموما، حينما لم تكن هناك وسيلة اتصال أو تواصل إلا الخطابة؛ بل يمكن القول إن هناك خطبا غيرت التاريخ، وهناك أعلام عرفوا بخطبهم أكثر مما عرفوا بمواقفهم أو علمهم أو سياستهم.
وفي عصرنا الحاضر، عصر التواصل الاجتماعي، بكل أنواعه وأصنافه، وبكل ما يحمله من تطور مهيب ومريب، ما زالت الخطب المنبرية أداة فعالة يمكن أن تؤدي أدوارا كبيرة، لأسباب عديدة منها:
أن هذه الخطب تكتسب شرعيتها من الدين، بنص الكتاب والسنة، فخطب الجمعة، وخطب العيدين، وخطبة عرفات، بالإضافة إلى خطب المناسبات والطوارئ الكونية؛ كالاستسقاء، والخسوف والكسوف، تعد كلها من أمور الدين. ولا شك أن خطبة الجمعة تعد في أول القائمة للأمر الرباني الوارد فيها في أواخر سورة الجمعة، ثم لأن الصلاة المكتوبة مرتبطة بها. هذا فضلا عن أنها أسبوعية، وتمكِّن بذلك من التواصل المستمر المتقارب زمنيا، بين الخطيب وبين المصلين.
أن الاتصال يكون مباشرا بين الخطيب والسامعين، وهو ما لا يتأتى في وسائل الاتصال الأخرى، ومعلوم أن للاتصال المباشر دورا أساسيا في التأثير في المتلقي.
أنها تواكب الأحداث، ويمكن أن تنوّر عقول السامعين حول هذه الأحداث في ضوء الأحكام الشرعية، مما يمكّنهم من فقه واقعهم بشكل سليم.
أن الثقة تكون في العادة كبيرة في الخطيب، فهو في العادة يكون رجلا معروفا، وهو الفقيه، وهو العالم بأمور الشرع، وهو الحامل لكتاب الله، والمقدِّر لمسؤوليته أمام الله تعالى ثم أمام من يستمعون إلى كلامه، لذلك يبعد عنه الكذب والتدليس، على عكس ما يدور في وسائل التواصل الاجتماعي.
لكن هل تؤدي الخطب المنبرية دورها المنوط بها شرعا والمنتظر منها واقعا؟؟
الوقائع في أكثر من مقام لا تدل على ذلك، حتى في الأمور الدينية المحصورة، وبعضها يمكن أن تحدث أمام الإمام الخطيب وهو يلقي خطبته، لنأخذ على ذلك أمثلة:
أثناء إلقاء الخطبة قد يأتي بعض من وصل متأخرا إلى المسجد، فيتخطى رقاب الناس، وقد يؤذي بعضَهم، ليس لأنه لم يجد مكانا يقعد فيه في الخلف، فغالبا ما يكون هناك متسع في أواخر الصفوف، وليس لأنه يريد أن يقترب من الخطيب ليسمع ما يقوله، فمكبرات الصوت تُسمِع الناس في كل مكان، ولكنه يريد القعود في الصفوف الأولى، ليصلي بعد ذلك في الصف الأول، حرصا منه على أن ينال أجر الصلاة في الصف الأول، هكذا يظن، وهكذا يتخيل…
أثناء إلقاء الخطبة قد يأتي بعض من وصل متأخرا أيضا إلى المسجد، فيجلس مباشرة، حتى إذا أقيمت الصلاة قام ليصلي تحية المسجد حرصا منه على ألا يفوته أداء هذه السنة.
في صلاة الجمعة أو في غيرها من الصلوات، قد تطلب من شخص أن يتم الصف، أو أن يستوي حتى لا يكون معوجا أو متقطعا غير تام، فيجيب في أدب جَمّ: “هما سواء”: (كِيفْ كِيف)، هذا إن لم يُخرجك من الملة، وينكر عليك معرفتك بالدين، وأن الأمة كلها تصلي وتعرف الدين ولست أنت وحدك من يعرفه!!، وقد يُسمعك اتهامات ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، وقد يدفع ذلك إلى شجار تعلو فيه الأصوات، ويُلوَّح فيها بالتهديد. إلى غير ذلك مما يثير انتباه المصلين بشكل لافت للنظر هنا أو هناك، مما تشمئز منه النفوس ويترفع عن الخوض فيه العقلاء.
طبعا لست فقيها مفتيا، ولكني ذكرت أمثلة بسيطة مما هو معروف لدى عموم المصلين كما يعرف النهار والليل. ولذلك أقول إن مما ينبغي أن يثار في الخطب المنبرية مثل هذه الأمور التي تتعلق أولاً بإقامة الصلاة ومراعاة حرمة المسجد، بالإضافة إلى التنبيه على غيرها من الفرائض والسّنن، وأن يُذكّر بها بشكل مستمر. بالتأكيد لا أقصد أن تكون الموضوع الوحيد، ولكن أقصد أن تخصص دقائق محدودة للتنبيه على مثل هذه الأمور، حتى ولو كان ذلك بين قوسين –كما يقال-؛ أي حينما يحدث الحدث يتدخل الخطيب مباشرة، أو على الأقل في الخطبة الموالية، وذلك مواكبة للحدث، حتى تؤدي الخطبة المنبرية دورها المنشود.
أ.د. عبد الرحيم الرحموني