الحضارة إنجازات فكرية وعلمية وتقنية وأخلاقية وقانونية فنية… لأمة من الأمم على مدى زماني ومكاني واسعين لا يسهم فيه أبناء جيل واحد في مرحلة واحدة فقط وإنما تسهم فيه الأجيال المتعاقبة أنواعا من الإسهام تفضي في مجموعها إلى إغناء الحضارة.
والحضارة لا توصف بوصف الحضارة إلا بهذه الصفات؛
1 – الاشتراك الجماعي في منجزاتها بين أجيال الأمة.
2 – الامتداد الزماني والمكاني الواسعين.
3 – الانتقال من جيل إلى جيل.
4 – التطور والتقدم بإضافة كل جيل إبداعات جديدة وتجاوزه لما لم يعد صالحا من منجزات السابقين.
5 – استمرار روح الأمة وفلسفتها باعتبار هذه الروح هي السمة الجوهرية الأصلية الثابثة التي تطبع مختلف منجزات الحضارة بطابعها وتسمها بسمتها وتمنحها حق الانتماء الحضاري، وما يهمنا في هذا المقام هو بيان قيمة الاشتراك الجماعي في المنجز الحضاري لأمة من الأمم وبيان كيفية انتقاله وتطوره لبيان قيمته في منظومة السنن الحضارية.
لذا فالحضارة كبقية الممتلكات المادية إرث للأمة يُورَث ويُوَرَّث؛ فهو أحيانا ينتقل انتقالا اجتماعيا طبيعيا وأحيانا أخرى لا بد من تدخل الإنسان الواعي والقاصد لتنظيم عملية نقل عناصر الحضارة وتعليمها إلى الأجيال تعليما يورثها توريثا قاصدا ومنظما وبانيا، ويصبغ الأجيال اللاحقة بخصائصها. فكما تنقتل الصفات الوراثية البيولوجية تنتقل الصفات الثقافية والحضارية والاجتماعية.
وإن الأمة -أي أمة- كما تورث منجزاتها المادية للأجيال المتعاقبة تورث روحها المعنوية وفلسفتها الحضارية، وإن حرص الأمم على توريث هذا الشق الثاني أشد من حرصها على الأول، وإن الأمم التي تقتصر على توريث تراث الآباء والأجداد للأبناء والأحفاد دون التراث الروحي الفكري العقدي أمة لا تدخل عالم الحضارة، وإن دخلته فبروح غيرها لا بروحها أو بروح مشوهة لا تصمد في التدافع والتداول الحضاري.
وبغير الوراثة والتوريث القاصد والواعي تضيع العناصر الأساسية في الحضارة وقد يدخل فيها وإليها ما يناقض هويتها، ولذلك فإن الأمم التي تفرط في التوريث العلمي المنظم لمقوماتها الحضارية يسرع إليها الانحراف عن الأصول ويتسلل إليها مرض التشوه في السلوك والعقول، وتفقد خصوصياتها وتميزها فتميل طوعا وكرها إلى الذبول والأفول، وتكون أكثر قابلية للغزو والمحو.
ومن هنا يصح الحديث -على غرار علم الوراثة البيولوجية- عن علم الوراثة والتوريث الحضاريين، فالأول علم طبيعي يخص طبيعة الأحياء وخصائصها الوراثية، وهذا يخص منجزات الأحياء وخصائصها الثقافية والحضارية، وهو علم يمكن أن يشمل الأفقاه الآتية:
فقه أنواع “الجينات” الحضارية: الأساسية والثانوية، الثابت منها والمتغير، الأصيل منها والهجين… حتى ينقل منها ما هو أصلح للتأثير في الانتشار في الزمان والمكان والإنسان، ولا يضاف إليها ما يناقضها ولا يعاضدها من الجينات الحضارية الأخرى فيحدث الخلل والتشوه.
فقه طرق نقل هذه الجينات نقلا علميا منظما وفق قواعد وضوابط موزونة بميزان الأصول الحضارية للأمة.
فقه مراحل النقل وسنه على غرار الزواج سنا ونوعا، فنقل عناصر الحضارة يحتاج إلى رشد الأمة وكفاءتها.
فقه ما يلزم من المؤسسات القمينة بالنهوض بأعمدة البناء الحضاري، وفقه ما يلزم لها من الخطة والعدة.
وإن عملية توريث الثقافة والحضارة لا تتم إلا عبر التربية والتعليم بمختلف أنواعهما ووسائلهما، فبهما يتمكن الإنسان من نقل عناصر الحضارة المادية والمعنوية إلى غيره سواء أكان هذا الغير أبناء أم أحفادا، أو كان أقواما آخرين من أمم وشعوب أخرى. لذلك لاحظ علماء الاجتماع والثقافة أن وظيفة التنشئة الاجتماعية الأساس ليست تأهيل الفرد للاندماج في وسطه الاجتماعي والثقافي كما يبدو في الظاهر وإنما هي إعداد الفرد والأمة الحاملين معا لمبادئ الحضارة ومقوماتها القادرين على تبليغها للآخرين وحمايتها؛ إذ قصد التنشئة الاجتماعية في نهاية المطاف إنما هو الحفاظ على المكونات الثقافية الأساس للمجتمع التي بوجودها واستمرارها يضمن المجتمع بقاءه واستمراره، وعلى قدر ترسخها في وجدان الأفراد وتصرفهم وفقها ودعوتهم إليها تكون قوة المجتمع ومناعته.
وختاما نقول إن فقه التوريث الحضاري هو الذي لا يضمن البقاء فحسب، وإنما يضمن قوة البقاء للحضارة والأمة، وإن قوة التدافع والتداول مداره على قوة التوريث الحضاري، فلا قدرة للأمة أي أمة على الوجود الحضاري بله الاستمرار من غير توريث راشد، ولا تداول ولا تدافع ممكن بدون فقه الوراثة والتوريث الحضاريين.
الطيب بن المختار الوزاني