لم يكن علم أصول الفقه منذ نشأته الأولى هكذا عند الأصوليين مرسلا عن أهدافه العلمية، بل لابد أنهم سعوا في تسطيره بالكيفية التي هو عليها في كتبهم اليوم إلى تحقيق مجموعة من الأهداف العلمية التي تحقق مبتغاه وتسطر مرتجاه في رؤية واضحة، سطرها السلف وسار عليها الخلف مضيفين ومحررين ومنقحين، فنبدأ أولا من معنى الأهداف، ثم نعرج على ذكر بعض الأهداف العلمية لهذا الفن.
معنى الأهداف
تطلق الأهداف في المجال التدريسي ويراد بها: «تغيير متوقع يحصل في شخصية المتعلم، أو هي ما يراد حصوله من نمو وتغيير في مقومات شخصية المتعلم»(1).
فأهم ما ترمي إليه هذه الأهداف هو أن يحدث تغيير، لكن ليس كل تغيير، بل المقصود التغيير بمعنى التطور، من الجيد إلى الأجود، ومن الحسن إلى الأحسن… وهكذا.
لكن ما نقصده هنا ليست هي الأهداف في مستواها التعلمي، وإنما في مستواها العلمي، لارتباط الأخيرة بالتأليف، والأولى بالتنزيل.
فالأهداف في مستواها العلمي يمكننا أن نعرفها فنقول: هي مجموعة من الرؤى ذات الأمد البعيد لبناء المنهج التفكيري عند أهل هذا الفن، ووضع أسسه، ومبادئه، ومقاصده، ومآلاته، تنقيحا وتحقيقا وتخريجا، من أجل النظر في النص الشرعي وفهمه وتنزيله.
لذا سنسوق فيما يلي أهم الأهداف التي سعى الأصوليون إلى تحقيقها في بناء الفن ووظائفه.
أولا: تحصيل ملكة الاستنباط
أول هدف يستفاد من هذا الفن هو تحصيل الملكة الاستنباطية عند الطالب، وعندما نقول «الملكة الاستنباطية» فإننا نقصد بذلك مدى قدرة الطالب على التعامل مع الدليل وتوظيفه في مختلف القضايا التي تواجهه فهما وتنزيلا وعملا، فإن هو أحسن إتقانها يكون حينها محسنا «للملكة الحجاجية» والتي تعني مدى قدرته على استعمال الدليل واستحضاره والاستدلال به على القضايا المختلفة. ومن تمكن من تحصيل هاتين الملكتين يكون حينها قد حقق هدفا عظيما من أهداف هذا الفن الشرعي، ويكون حينها أصوليا وحق له أن يجتهد.
جاء في كشف الظنون أن: «الغرض منه- أي من علم أصول الفقه – تحصيل ملكة استنباط الأحكام الشرعية الفرعية، من أدلتها الأربعة، أعني: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس…»(2)، وهي أرقى غاية يمكن أن يصل إليها المجتهد والتي يسعى أصول الفقه إلى تحقيقها.
ويقول الغزالي: «إذا فهمت أن نظر الأصولي في وجوه دلالة الأدلة السمعية على الأحكام الشرعية لم يخف عليك أن المقصود معرفة كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة»(3).
ويقول ابن خلدون في ثمرة هذا العلم: «اعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية وأجلها قدرا وأكثرها فائدة وهو النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام والتكاليف»(4).
ثانيا: التمييز بين القطعي والظني من الأحكام، ونيل الفوز بسعادة الدارين
فالقطعي «ما دل على الحكم من غير احتمال ضده»(5) أو هو ما دل على معنى لا يحتمل غيره.
والظني «ما دل على معني ولكن يحتمل أن يؤول ويصرف عن هذا المعنى ويراد منه معني غيره»(6).
وأقصد بخاصية القطعية والظنية هنا عموما: مدى إفادة الأدلة الأصولية لحجيتها سواء على مستوى الورود أو على مستوى الدلالة، فكلتاهما تشمله القطعية والظنية.
إذ «يلمح جانب القطع والظن في جانبين: الثبوت والدلالة، وإدراك هذا التمايز مهم جدا في تمييز رتبة الحكم المقرر، وكذا في الترجيح بين الأدلة المتعارضة، وكل جنس من أجناس الأدلة فيه ما هو قطعي وظني»(7).
فالقطعي والظني يتعلقان بأمرين اثنين: الأمر الأول: جانب الثبوت؛ بمعنى من حيث ورود الأدلة إلينا ومعرفة حجيتها ومرتبتها، وهنا يكون الحديث عن الرواة والمروي أو المنقول، والقرآن من هذه الناحية قطعي الثبوت لا ظنية فيه، وكذلك بعض من السنة في جانبها التواتري.
والأمر الثاني: جانب الدلالة؛ وذلك من حيث دلالة الألفاظ على المعاني في حجيتها أيضا، لكن هذا يكون داخل النصوص نفسها، أي في مضامينها، وهنا يكون الحديث عن الألفاظ والمعاني؛ بمعنى الحديث عن استنباط الحكم الشرعي من النص.
فالدليل القطعي يقدم على الدليل الظني دائما في عملية الترجيح إن تحقق ذلك.
فالنص القرآني قطعي من حيث المصدرية والثبوت والورود…، أما من حيث دلالته على الأحكام ففيه قطعي الدلالة وفيه ظنيها.
ودليل السنة من حيث حجيته أيضا فيه القطعي، وهذا الصنف يمثله المتواتر منها، وإلى جانبه المشهور عن الصحابة لا عن الرسول ، وإلا هو ظني، والآحاد كذلك ظني الدلالة. هذا من حيث الثبوت.
أما من حيث الدلالة فكل هذه الأنواع الثلاثة قد تجد فيها ما هو قطعي، وما هو ظني.
ونحن خصصنا الحديث عن هذين المصدرين؛ لأنهما أصلا الأصول ومصدرا المصادر، فما يجري عليهما في القطع والظن في إثبات الأحكام، قد يجري على بعض من الأدلة المتفق عليها الباقية، كالإجماع، أما المختلف فيها فتعتبر حجة عند من يقولون بحجيتها.
يقول الشوكاني: «وأما فائدة هذا العلم: فهي العلم بأحكام الله سبحانه أو الظن بها. ولما كانت هذه الغاية بهذه المنزلة من الشرف، كان علم طالبه بها ووقوفه عليها مقتضيا لمزيد عنايته به، وتوفر رغبته فيه؛ لأنها سبب الفوز بسعادة الدارين»(8).
يبين الشوكاني أن التمييز بين القطعي والظني من الأحكام هدف يسعى الدليل الأصولي إلى تحقيقه، حتى يكون المجتهد على دراية بهذا الأمر حين التأمل في النصوص الشرعية؛ لأن العمل وفق ذلك سبب الفوز بسعادة المرء دينا ودنيا.
ثالثا: ضبط قواعد للتفكير الصحيح في النصوص الشرعية فهما وتنزيلا:
هذا الهدف له سمعته الطيبة الباركة في التأسيس لهذا العلم المبارك، وهو المعبر بحق عن زاوية النظر الأصولي في بناء المنهج التفكيري الرفيع القدر؛ يقول ابن عاشور: «يقصد من علم الأصول ضبط القواعد التي يستطيع العالم بها فهم أدلة الشريعة؛ ليأخذ منها الأحكام التفريعية»(9). ذلك أن ضبط القواعد من أجل فهم العلم، هو هدف يحقق مسعى المجتهد بصفة عامة.
رابعا: فقه مراد الله تعالى من وحيه.
يعد هذا الهدف تطبيقيا بامتياز وهو المرتجى الأعظم من هذا الفن تحقيقه، لأنه يعمل بذلك على إصابة البؤرة الحقيقة للاشتغال الفني في هذا العلم، وهو بمثابة هدف ونتيجة لما قد يتمخض عن التصورات الأولية والسابقة لمقتضيات الفن كله،
يقول ابن تيمية: «المقصود من أصول الفقه: أن يفقه مراد الله ورسوله بالكتاب والسنة»(10).
حيث الكتاب والسنة هما المصدران الأولان اللذان وجب فقههما؛ لأنهما منهجا الحياة وسبيلا النجاة، وهذا أهم مقصد يقصد من الأصول؛ لأن فقه مراد الله تعالى يوجب العمل به.
خامسا: ضبط العلاقات بين ثنائيات من قبيل: العقل والنقل، والرأي والشرع واللفظ والمعنى…؛
يهدف هذا الفن إلى المزاوجة بين ما هو شرعي وما هو عقلي، حيث يستخدم الثاني في فهم الأول، والأول لتصويب الثاني، وبهذا الجمع يكون هذا العلم قد نحى منحى تدقيقيا بامتياز وله في ذلك كلمته،
يقول الغزالي: «وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد»(11).
فالأدلة تحتاج إلى عقل في الاستنباط منها كما أن العقل لا يسمو ويستقيم حاله إلا بتوجيهاتها.
ومثل هذا الصنيع في الجمع بين هذين الثنائيين يفعل في باقيها، كربط العلاقة بين اللفظ والمعنى عن طريق الكلي والجزئي.
المصطفى خرشيش
—————————
1 – منهاج تدريس الفقه دراسة تاريخية تربوية مصطفى صادقي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط:1، 1433هـ / 2012م. ص:285.
2 – كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة(تـــــ: 1067هـ)، الناشر: مكتبة المثنى – بغداد-، 1941م، ج:1، ص:81.
3 المستصفى للغزالي، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، ط: الأولى، 1413هـ – 1993م، ص:7.
4 – مقدمة ابن خلدون، ص:359.
5 – أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله عبد الكريم النملة، ص:96.
6 – علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف، ص:35
7 – غمرات الأصول المهام والعلائق في علم أصول الفقه للشثري ص:106
8 – إرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول للشوكاني (تـــ: 1250هـ)، تحقيق: الشيخ أحمد عزو عناية، دار الكتاب العربي، ط: الأولى 1419هـ – 1999م، ج:1، ص: 24
9 – اليس الصبح بقريب التعليم العربي الإسلامي دراسة تاريخية وآراء إصلاحية، للطاهر بن عاشور، دار السلام، ط:1، 1427هــ/ 2006م. ص:176.
10 – مجموع الفتاوى لابن تيمية (تـــــ: 728هـ)، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، دار مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ/1995م، ج:20 /ص: 497.
11 – المستصفى للغزالي، ج:1، ص:4.