المبحث الثاني: مفهوم شمول السيرة
تناول فضيلة الدكتور في الحلقة السابقة مفهوم الكمال في مشروع السيرة الكاملة الشاملة، ومقتضياته، وفي هذه الحلقة يواصل بيان دلالة مفهوم الشمول وما يدخل تحته وما يشمله في الأحداث والبداية الزمنية والنهاية.
طلب الشمول في مدونة السيرة النبوية المنشودة راجع إلى ملاحظة القصور في المادة العلمية للسيرة الموجودة من حيث أنها إنما تحكي بعض الحياة النبوية دون بعض ومن بعض الجوانب والحيثيات دون بعض، وأكثر ما فيها هو عبارة عن مرويات للمغازي مشفوعة عند بعضهم بمتفرقات من أفعال الرسول وشمائله، ومجموع ذلك لا يمثل إلا جزء من السيرة، ويدل على قصورها أن مجموع مصادر السيرة متضمن للنواحي الأخرى من الحياة النبوية وللجديد من تفاصيل أحداثها زمانا ومكانا حالا وإنسانا والجديد من بياناتها تخصيصا وتقييدا والجديد من تعليلاتها أسبابا ومقاصد.
وعليه فمعنى شمول السيرة إجمالا شمولها لكل الارتباطات والامتدادات والعلاقات وذلك بمعنيين أولهما أصل للثاني:
المعنى الأول: اشتمالها على كل النصوص الصحيحة التي تمد بها المصادر السالفة الذكر والتي يتمثل فيها الواقع صدى للوحي ويتجلى فيها تفاعل الإنسان معه أي تفاعل الإنسان الرسول وتفاعل الإنسان المرسل إليه الذي هو محل خطاب الرسول والمعني بأقواله وأفعاله وتقريراته -وهو الإنسان في صورته الفردية والإنسان في صورة أسرة والإنسان في صورة قبيلة والإنسان في صورة مجتمع والإنسان في صورة أمة-مع كون تجلي ذلك التفاعل مفصلا مدققا مقترنا بكل ما يمكن معرفته عن إنسان ذلك العهد من حال أو نوع أو عدد، مندمجا مع ما يمكن معرفته عن مكان ذلك التفاعل من بادية أو مدينة أو مسجد أو طريق أو منزل أو بستان…، ومع ما يمكن معرفته عن زمان ذلك التفاعل من ليل أو نهار، وعشي أو إبكار، وفجر أو ظهر أو عصر أو مغرب أو عشاء…ومع ما يمكن معرفته عن علاقة ذلك كله بما وقع قبله أو بعده في المكان نفسه أو في مكان آخر بحيث لا تغيب معلومة يمكن استحضارها ولا تبقى في السيرة ثغرة يمكن سدها إلا سدت لأن أي نقص في ذلك هو سبب لخلل يصيب فهم السيرة والاستنباط منها ويقع عند إرادة الاقتداء بالرسول وإحياء سنته، ولأجل ذلك ينبغي أن تجتمع كل المعلومات المتاحة التي بواسطتها يتمكن قارئ السيرة من فهم ما كان في عهده واستنباط ما ينبغي أن يكون بعد عهده في أي عصر من الأعصار أو مصر الأمصار أو حال من الأحوال أو مجال من المجالات وبذلك تكون للسيرة هذه امتداداتها في حياة البشر إلى يوم الدين وذلك بما تسعف به من المنهاج الذي به يعاد إحلال الوحي في محله من الحياة زمانا ومكانا وحالا وإنسانا.
والمعنى الثاني: يحصل بحصول المعنى الأول، وهو شمول سيرة الرسول للحياة الإنسانية وذلك أنها لم تدع مجالا من المجالات الحياتية إلا دخلته بحكم كونها تطبيقا للقرآن الذي جعله الله “تبيانا لكل شيء” والتطبيق للشامل شامل.. فلقد كان يتصرف في الحياة العامة بمقتضى صفات متعددة مستغرقة لها: بشرا ورسولا مبلغا عن الله وداعيا إليه ومزكيا لأصحابه ومعلما لهم ومفتيا وقاضيا وإماما وقائدا عسكريا، وكان يتصرف في حياته الخاصة بمقتضى صفات أخرى: بشرا وعبدا شكورا وزوجا وأبا، وكانت أمته تتقلب في زمانه بين أحوال فقر وغنى، وأحوال استضعاف وتمكين، وأحوال خوف وأمن، وأحوال قلة وكثرة، وكل شيء من تلك التصرفات والأحوال كانت له أوقات وأمكنة وأسباب ومقاصد وآثار وكانت تؤطره آيات القرآن، وكان للرسول فيه منهج ووسائل وأفعال وأقوال وتقريرات.
الشمول بهذين المعنيين لا يفي به الموجود من السيرة، ومن ثم كانت هناك حاجة إلى أن يكون مجموع ما ذكر من المعلومات مضمنا في المدونة المنشودة على النحو الذي وقع به امتزاجا وتسلسلا أعني امتزاج المفردات المذكورة داخل كل مرحلة من مراحل السيرة التفصيلية، وتسلسلها تاريخيا، وأن تكون سيرة الرسول مجيبة في كل فقرة من فقراتها عن الأسئلة: ماذا وقع؟ ومن فعل؟ ومتى؟ وأين؟ ولماذا؟ وكيف؟ وأن تكون السيرة المجموعة من المصادر المذكورة آنفا هي التعبير التاريخي عن كيفية حلول وحي الله في واقع الناس حينئذ ومشتملة على سيرها الجزئية المتكاملة المتداخلة:
سيرته التبليغية والدعوية وسيرته التربوية وسيرته التعليمية وسيرته الإفتائية وسيرته القضائية وسيرته السياسية وسيرته العسكرية وسيرته التعبدية وسيرته الأسرية وسيرته الشخصية ،بحيث يتأتى لمن ينظر في السيرة الكلية نظرا تخصصيا أن يستخرج أيا من سيرها الجزئية شاء استخراجا تكون معه تلك السيرة المستخرجة شاملة شمولها الخاص بها ظاهرة الصلة بينها وبين سائر السير الجزئية مدعمة بالمعلومات الزمانية والمكانية والحالية والشخصية معززة بنصوصها المؤسسة والمواكبة وبمقاصدها الكلية والجزئية ومفصحة عن منهاجها الذي قادها من النشأة إلى التطور فالتمام.
ولتقريب هذا الشمول المرجو-من حيث معناه الثاني-يمكن التمثيل بمضامين بعض السير الجزئية المقتبسة من القرآن والسنة والتي هي مفقودة في السيرة الموجودة وصالحة لأن تكون –بعد إتمام بنائها– من مكونات السيرة الكلية المنشودة، وبيان ذلك كما يلي:
بناء على أن صلة ما بين القرآن والسيرة هي أن الرسول كان في كل تصرفاته الشريفة مسترشدا بالقرآن ومنضبطا بقواعده وعاملا بأمره ومجتهدا في ضوئه وكان في كل مرحلة من حياته النبوية يستمد منه الأحكام والمضامين والمقاصد والقواعد والوسائل، فكانت سيرته قرآنية وكان خلقه القرآن. وأن صلة ما بين السنة والسيرة هي أن الرسول كان يفعل كل شيء ينزل عليه من القرآن في وقته ويحله في محله ويبني بعضه على بعض ولاحقه على سابقه واستمر على ذلك مدة رسالته فكانت سيرته هي سنته في سيرورتها التاريخية.
د. زيد بوشعراء