وهذه المعرفة ترسخ بثلاثة أمور:
أولها: علم العبد بأن تدبير الله تعالى خير من تدبيره،
وباعثه الإيمان به، وتؤكده نصوص أهمها قول الرسول : «عجبت للمؤمن إن الله تعالى لم يقض له قضاء إلا كان خيرا له» (صحيح الجامع، 3985).
وعن مكحول قال: سمعت ابن عمر يقول: “إن الرجل يستخير الله فيختار له، فيسخط فلا يلبث أن ينظر في العاقبة، فإذا هو خير له”.
وقيل للحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما إن أبا ذر يقول: “الفقر أحب إلي من الغنى والسقم أحب إلي من الصحة، فقال رحم الله أبا ذر أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن غير ما اختار الله له”.
وعن مسروق، قال: “كان رجل بالْبَادية له كلْب وحمار وديك فَالديك يوقظهم للصلاة، والْحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لَهم خباءَهُمْ، وَالْكَلْبُ يَحْرُسُهُمْ. قَالَ: فَجَاءَ ثَعْلَبٌ فَأَخَذَ الدِّيكَ فَحَزِنُوا لِذَهَابِ الدِّيكِ وَكَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا فَقَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا ثُمَّ مَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَاءَ ذِئْبٌ فَخَرَقَ بَطْنَ الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ، فَحَزِنُوا لِذَهَابِ الْحِمَارِ. فَقَالَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ: عَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا، ثُمَّ مَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ بعد ذلك ثُمَّ أُصِيبَ الْكَلْبُ، فَقَالَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ: عَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا ثُمَّ مَكَثُوا بعد ذلك مَا شَاءَ اللَّهُ، فَأَصْبَحُوا ذَاتَ يَوْمٍ فَنَظَرُوا فَإِذَا قَدْ سُبِيَ مَنْ حَوْلَهُمْ وَبَقُوا هُمْ. قَالَ: وَإِنَّمَا أَخَذُوا أُولَئِكَ بمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الصَّوْتِ وَالْجَلَبَةِ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ أُولَئِكَ شَيْءٌ يَجْلُبُ، قَدْ ذَهَبَ كَلْبُهُمْ وَحِمَارُهُمْ وَدِيكُهُمْ”.
فكان ما ابتلاهم الله به أيسر مما صرف عنهم. لذلك قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: “ارْضَ بِقَضَاءِ اللَّهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عُسْرٍ وَيُسْرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ لِهَمِّكَ وَأَبْلَغُ فِيمَا تَطْلُبُ مِنْ آخِرَتِكَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ لَنْ يُصِيبَ حَقِيقَةَ الرِّضَى حَتَّى يَكُونَ رِضَاهُ عِنْدَ الْفَقْرِ، وَالْبَلَاءِ كَرِضَاهُ عِنْدَ الْغِنَى وَالْبَلَاءِ، كَيْفَ تَسْتَقْضِي اللَّهَ فِي أَمْرِكَ ثُمَّ تَسْخَطُ إِنْ رَأَيْتَ قَضَاءَهُ مُخَالِفًا لِهَوَاكَ، وَلَعَلَّ مَا هَوَيْتَ مِنْ ذَلِكَ لَوْ وُفِّقَ لَكَ لَكَانَ فِيهِ هَلَكَتُكَ، وَتَرْضَى قَضَاءَهُ إِذَا وَافَقَ هَوَاكَ وَذَلِكَ لِقِلَّةِ عِلْمِكَ بِالْغَيْبِ، وَكَيْفَ تَسْتَقْضِيهِ إِنْ كُنْتَ كَذَلِكَ مَا أَنْصَفْتَ مِنْ نَفْسِكِ وَلَا أَصَبْتَ بَابَ الرِّضَا”.
ثانيها: الرضى بالألم، لما يتوقع من الثواب والأجر المدخر وباعثه اليقين بالجزاء.
قال تعالى: “فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين”.
وعن حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى رَجُلٍ سَيِّئِ الْهَيْئَةِ وقَالَ: “مَا أَمْرُكَ؟ ومَا شَأْنُكَ؟”، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يُهِمُّنِي مَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا إِذْ لَمْ أَصْنَعْ فِيهِ، وَيُهِمُّنِي مَا بَقِيَ مِنْهَا كَيْفَ حَالِي؟ قَالَ: “أنت مِنْ نَفْسِكِ فِي عَنَاءٍ” قَالَ: ثُمَّ لَقِيَهُ بَعْدُ وَقَدْ حَسُنَتْ هَيْئَتُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَانِي آتٍ فِي الْمَنَامِ فَوَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا عَلَى قَلْبِي ثُمَّ قَالَ: قُلِ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً تُوقِنُ بِوَعْدِكَ وَتُسَلِّمُ لِأَمْرِكَ وَتَرْضَى بِقَضَائِكَ، فَوَ اللَّهِ مَا يُهِمُّنِي شَيْئٌ مَضَى وَلَا بَقِيَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ َ: «فَقَدْ رَأَيْتَ خَيْرًا فَالْزَمْ».
ثالثها: الرضى بالقدر، لا لحظ وراءه، وباعثه الحب.
ومثاله ما قاله أَبُو عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ، قَالَ: أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى جَوَامِيسَ لِبَشِيرٍ الطَّبَرِيِّ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ جَامُوسٍ. قَالَ: فَاسْتَرْكَبَنِي فَرَكِبْتُ مَعَهُ أَنَا وَابْنٌ لَهُ. قَالَ: فَلَقِيَنَا عَبِيدُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الْجَوَامِيسِ مَعَهُمْ عِصِيُّهُمْ. قَالُوا: يَا مَوْلَانَا ذَهَبَتِ الْجَوَامِيسُ فَقَالَ: “وَأَنْتُمْ أَيْضًا فَاذْهَبُوا مَعَهَا فَأَنْتُمْ أَحْرَارٌ لِوَجْهِ اللَّهِ”، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: يَا أَبَتاهُ أَفْقَرْتَنَا. فَقَالَ: “اسْكُتْ يَا بُنَيَّ إِنَّ رَبِّي اخْتَبَرَنِي فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَزِيدَهُ”.
ومن اجتمعت في قلبه هذه المعرفة فقد وعده ربه بالحياة الطيبة فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً (النحل:97).
وقد قال عنها أَبُو مُعَاوِيَةَ الْأَسْوَدَ، “فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً”. قَالَ: “الرِّضَى وَالْقَنَاعَةُ”.
فيقابل سبحانه كرم القلوب بكرم أشمل منه فيرضى عنهم ويرضوا عنه.
وإذا قلنا كيف السبيل إلى ذلك كله؟
نجد ألا سبيل إلى ذلك المرام إلا بالإكثار من الذكر والحرص على القربات حبا ومهابة وتعظيما، فقد كَانَ عمر بن عبد العزير يَقُولُ: “لَقَدْ تَرَكَتْنِي هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ وَمَا لِي فِي شَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِرَبٌ إِلَّا فِي مَوَاقِعِ قَدَرِ اللَّهِ. قَالَ: وَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَدْعُو بِهَا: اللَّهُمَّ رَضِّنِي بِقَضَائِكَ وَبَارِكْ لِي فِي قَدَرِكَ حَتَّى لَا أُحِبَّ تَعْجِيلَ شَيْءٍ أَخَّرْتَهُ وَلَا تَأْخِيرَ شَيْءٍ عَجَّلْتَهُ”.
دة. رجاء عبيد