تكلم المفسرون في هذه الآية الكريمة كثيراً، فكان مما اتفقوا عليه، أنّها تشير إلى أنّ سيدنا يعقوب فقد بصره؛ فقالوا: (ابيضت عيناه) أي: انمحق سوادهما وبُدّل بياضاً من بكائه، وقيل: لم يبصر بهما، وأنه عَمِيَ. ومنهم من قال: قد تبيض العين ويبقى شيء من الرؤية، والله أعلم.
لا خلاف على أنّ عيني يعقوب ابيضت من الحزن، والحزن هو الألم الشديد على شيء عزيز، وقد بدأ حزن يعقوب منذ أن أرسل يعقوبُ يوسفَ مع إخوته –بطلب منهم- (يرتع ويلعب)، فكان رد يعقوب عليهم: (إني ليحزنني أن تذهبوا به). ولفظة (ليحزنني) فعل مضارع يدل على الاستمرار، فهو يحزن على ما يتوقعه من غياب يوسف؛ وقد كان. ولذلك عندما ذهب إخوة يوسف إلى مصر بعد سنين طلباً للمعونة بسبب القحل، وأخذوا أخاهم بنيامين، وعادوا من دونه بسبب تهمة سرقة صواع الملك –وكلنا قرأ سورة يوسف ويعرف قصته-، ابيضت عينا يعقوب من الحزن الطويل الدفين؛ فالحزن –كما يقول الفخر الرازي- في كتابه مفاتيح الغيب م12، ج24، ص194: (غمّ يلحق المرء بسبب مكروه حصل في الماضي)، فقد نزلت بيعقوب طاقة من الهمِّ لفقده يوسف فحزن حزناً طويلاً استمر أكثر من ثلاثين عاماً (إنه ليحزنني)، تبعتها طاقة أخرى من الهمِّ بعد سنين لفقد ابنه الآخر بنيامين شبيه يوسف، فحزن حزنا شديداً، فابيضت عيناه، كناية عن فقد البصر، وعلمياً يعرف الأطباء أن العين يصيبها الماء الأبيض، حيث إن الحزن الشديد أو الفرح الشديد يسبب زيادة في هرمون الأدرينالين وهو مضاد لهرمون الأنسولين، مما يؤدي إلى زيادة في سكر الدم، يُحدِث غباشاً أو تعتيماً في العين، فيضعف البصر، وإذا زاد دون علاج يفقد المرء بصره مع الزمن، لكن، اليوم في وقتنا الحاضر، يمكن أن يعالجه الأطباء، فهو ليس مرضاً عضوياً مستعصياً.
وما استوقفني في قصة يوسف، وتأويلات وتفسيرات بعض المهتمين اليوم، أن يُفسَّرَ سبب عودة بصر يعقوب ، حين قال على لسان يوسف ، (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبيكم يأت بصيراً)؛ بأنّ القميص كان مصنوعاً من وبر الجمل، وأنّ فيه أشواكاً، فلما ألقي القميص على وجهه، مسحت تلك الأشواك وأزالت ما في عينيه من قذى. وأن تفسر لفظة (ألقى) بمعنى: رضخ. وهذا من العجَب الذي يقال!
لقد وقفت على كتب التفسير، فما وجدت أحداً من السابقين ولا أحداً من اللاحقين قال بأن قميص يوسف كان مصنوعاً من وبر الجمل! ولو كان هذا صحيحاً فلمَ لم يثبته العلم للآن؟! وبالعودة إلى معاجم اللغة فإن رضخ تعني: ضربه ودقّه بقوة وكسره. فكيف يمكن القول بأن ألقاه هي بمعنى رضخ، وهل يعقل أن يفسر قوله تعالى بهذا؟! فالعبرة ليس ممّ كان مصنوعاً ذلك القميص، إنما في أنه قميص يوسف، الذي فيه ريحه وأثره. فـ (من) في قوله تعالى: وابيضت عيناه من الحزن سببية؛ فالحزن يسبب الأمراض، من سكري وضغط وأمراض العيون وغيرها، وهذه حقيقة علمية وصحية؛ فالإنسان إذا ما فتئ يبكي ويحزن، يذوب جسده، وينفطر قلبه، وتبيض عيناه، فخرجت (مِنْ) هنا عن معناها اللغوي الحقيقي الذي هو ابتداء الزمان والمكان، إلى معنى السببية المفهوم من السياق.
وعليه أقول: إن الصدمة النفسية الحزينة التي تعرّض لها يعقوب ، بفقده يوسف واستمرار تلك الصدمة إلى أن أتته صدمة أخرى حزينة بفقد ابنه الآخر بنيامين، ففقد بصره، كانت تلك الصدمة الحزينة بحاجة إلى صدمة نفسية سعيدة، كي تعيد له بصره، وتلك الصدمة السعيدة لا يمكن أن يتحملها يعقوب دفعة واحدة؛ فالإنسان لا يتحمل الصدمات المفاجئة أياً كانت، وهذا معروف في علم النفس، فإلقاء الخبر (فرحاً أو حزناً) على الإنسان بالتدريج يجعل انفعالاته وردود أفعاله متزنة طبيعية، بعيدة عن السلبية التي قد تؤدي إلى نتائج معاكسة، وعليه كان إبلاغُ الخبرِ يعقوبَ متدرجاً؛ فكانت الإشارة الأولى منه سبحانه أن ألقى في روع يعقوب فكرة عودة يوسف، فقال : (إني لأجد ريح يوسف)، حيث قرّب إليه سبحانه وتعالى الفكرة، فإذا ما جاء إخوة يوسف وألقوا عليه قميصه ارتد بصيراً.
نحن لا ننكر قضايا العلم، لكن أود القول إنه ليس من الضروري أن نفسر آيات مثل هذه الآية تفسيراً علمياً، بل نفسرها تفسيراً ربانياً، أي منطلقاً من الإيمان بقدرة الله ومشيئته وحكمته، في أن تكون هذه معجزة من معجزاته ليوسف ويعقوب عليهما السلام، بأسباب معينة، قد يكون أثر يوسف في القميص، من عرق أو غيره، لكن بإرادة الله –لا ريب-، تماماً كما كان عيسى يحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ الأكمه بإذن الله، كذلك عاد بصر يعقوب –بإذن الله- بإلقاء قميص يوسف الذي فيه أثره على وجه يعقوب، فهذه معجزة خاصة ليوسف وأبيه. تماماً مثلما مسح رسول الله عينيّ عليّ -يوم خيبر- وقد أصابهما الرمد، فكان أن ذهب الرمد منهما، فهذه معجزة من معجزاته ، فلا يمكن لأي شخص أن يمسح عيني أرمد فيذهب الرمد منهما، كذلك كان قميص يوسف معجزة في عودة بصر يعقوب، فهو ليس كأي قميص.
دة. تمام السيد
* أستاذ مساعد-الأردن