إن عملية الاتصال أو التواصل من أهم المهارات في حياتنا، لآثارها الإيجابية وانعكاساتها التنموية العميقة، ولا تتم هذه الخبرة إلا بواسطة الخطاب/الرسالة. إرسالا واستقبالا، واستجابة. ذلك أن فهم الناس والتحدث إليهم وحسن الاستماع إليهم، واستقبال رسائلهم والاستجابة لها وعدم إهمالها، من مقومات التعامل الناجح معهم. وعندما نقول كلمة (مهارة) فإننا نقصد بها القدرة على إنجاز العمل التواصلي بكيفية محددة، وبدقة متناهية، وسرعة في التنفيذ، وجودة في الأداء.
للأسف عدم إتقان هذه المهارة أو تعطيلها من الأسباب الرئيسية لما نعيشه من آفات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية ونفسية، ولما يصاب به البعض منا من إحباط ويأس لأن واقع الحال يشهد بأن لاحياة لمن تنادي، ترسل رسائل التظلم والتبليغ عن الاختلالات بإسم صريح أو مجهول للجهات المختصة فتقابل ذلك بالإهمال، فتظل دار لقمان على حالها، ويستفحل الوضع إلى أن تسقط النقطة التي تفيض الكأس؛ قطرة الدم السائلة من جراح المعاناة وتحصل الهبة العامة، لتتحرك الإدارة بسبب الكارثة.ويقع إفلاس كثير من المشاريع نتيجة عدم إقبال الجمهور، نظرا لفقد القيام بالتواصل الكافي مع المستهدفين، وعدم البيان الشافي لمايراد القيام به من المصالح.مع أن وسائل الاتصال والتواصل الرقمي من منجزات هذا العصر لاتدع عذرا لمعتذر (الفايسبوك، وتويتر، واليوتوب، والهاتف النقال، والواتساب). ترسل الإرساليات وتقابل بالإهمال بل ومنها ما لا يستلم ليتهم المرسل بعدم التواصل لدى الجهات المختصة. وإذا عولج الموضوع وصرنا في تواصل فلابد أيضا من محاذير.لكل ذلك وغيره كان هذا المقال للإسهام في معالجة االمعضلة!
مفهوم التواصل:
الوصل في اللغة ضد الهجران وهو خلاف الوصل، واتصل الشيء بالشيء لم ينقطع، والتواصل ضد التصارم(1)، نلاحظ من التعريف اللغوي أن التواصل أو الاتصال يكون بين طرفين، وبالتالي فعملية الاتصال تقتضي أركانا ضرورية هي: المرسل، والمستقبل، والرسالة، والقناة، والأثر، ورد الفعل. لذلك تم تعريفه بـ”أنه عملية، يقصد مصدر نوعي بواسطتها، إثارة استجابة نوعية لدى مستقبل نوعي”(2). فالاتصال له وظيفة هي إحداث تأثير لدى المستقبل من طرف المرسل. كما أن المرسل ينتظر تفاعل المرسل إليه واستجابته للرسالة. ويتنوع هذا التأثير بحسب موضوع الرسالة وهدف المرسل واستجابة المرسل إليه، والتواصل البشري أي بين الناس يتم بالكلام وبغيره ويتم بشكل عفوي أو مفتعل، ويفضي إلى تبادل المعلومات والمشاعر والأفكار.والتواصل يختلف عن الإعلام والإخبار الذي هو عمل من طرف واحد بينما التواصل يتم بالتفاعل بين طرفين وتبادل التأثير.
أنماط التواصل:
من أنماط التواصل: التواصل اللغوي، والتواصل الإداري، والتواصل الاجتماعي، والتواصل العلمي، والتواصل السياسي.
التواصل اللغوي: هو أرقى مستويات التواصل بين البشر. وهو الطريقة الذائعة بين غالبية الناس في الكرة الأرضية، واللغة هي الوعاء الناجع لإبلاغ المعاني، ولابد لها من شروط وآداب لتحقق أغراضها، ومنها الفصاحة والبيان، لأن اللسان هو آلة الكلام؛ إذا حلت عقده، وأفصح عن المراد، ارتفع قدر الإنسان.
لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُه
فلم يبقَ إلَّا صورةُ اللَّحمِ والدَّمِ
التواصل الإداري: يعني”إنتاج أو توفير أو تجميع البيانات والمعلومات الضرورية لاستمرار العملية الإدارية،ونقلها أو تبادلها أو إذاعتها، بحيث يمكن للفرد أو الجماعة إحاطة الغير بأمور أو أخبار أو معلومات جديدة، أو التأثير في سلوك الأفراد والجماعات، أو التغيير والتعديل في هذا السلوك أو توجيهه وجهة معينة”(3). ولتحقيق هذه الأهداف يشترط في الفاعل الإداري أن يبث روح الفريق في العاملين معه. وأن يبتعد عن الفردية والبيروقراطية الزائدة. والاستماع لآراء العاملين معه وأفكارهم، وتبادل الحوار معهم حول آليات العمل واعتماد المفيد منها.
التواصل الاجتماعي: وهو تواصل يجعل الإنسان مندمجا في وسطه الاجتماعي، محققا لأغراض الاجتماع البشري من صلة وود واحترام وقضاء مصالح ومنافع كثيرة، وليحقق التواصل هنا أغراضه لابد من مراعاة الشعور والوجدان في الخطاب إلى جانب البعد العقلاني المنطقي. وتحري القصد النبيل والصواب الحسن. ولابأس من الإتصال لتفقد أحوال الأقارب والأصدقاء، ولقضاء الحوائج، ومد يد المساعدة، وقد وفرت وصائل الاتصال الحديثة مايكفي ويغني من الخدمات، لتبادل المعلومات والأخبار ونشر الأفكار. حتى إننا نجد بواد وقصورا بمنطقتنا أسس المنتسبون لها جمعيات، وتعاملوا بإيجابية مع وسائل الاتصال الحديثة، لأغراض اجتماعية وجمعية مهمة (كأخبار التعازي، ومواعيد الجموع العامة، والتعريف بالأنشطة الاجتماعية والثقافية والتنموية المتنوعة)، حققت آثارها المرجوة، وفوائدها المقصودة.
التواصل العلمي والتربوي: ونقصد به التواصل الذي يحقق الانتفاع العلمي والثقافي بما عند أهل العلم الذين نخالطهم في المؤسسة التعليمية أو خارجها.
ولنتأمل فيما قاله المفكر الأمريكي وليم كلاسر(Williamgllasser): “إن الإنسان يتعلم، ويزيد ثقافته ومعارفه في الحياة عبر المصادر الآتية:
10% ممايقرأ. 20% مما يسمع. 30% مما يرى ويشاهد. 50% مما يري ويسمع. 70% مما يناقشه مع الآخرين. 80% مما يحصل عليه، وعبر تجاربه الشخصية. 90% ممايعلمه للآخرين”(4). ويلاحظ في هذا النص أن أقوى منابع التعلم التجربة والمدارسة وهي عملية تعلمية وتعليمية ترتكز على أسس حقيقية للتواصل، والشاهد عندنا قول ويليام: “%90. مما يعلمه للآخرين”، وهذا التعليم للآخرين لابد أن يتحقق بشروطه لينتج ثماره، ومنها التخطيط المسبق بما في ذلك التحضير، وتنظيم الأفكار، ومهارة الإلقاء، وإشراك المتلقي في العملية التعليمية، وعدم الإكتفاء بتلقين المعلومات والمعارف بزيادة إكساب المهارات العملية المنهجية في جو تواصلي مريح ومحفز. كما أن المتلقي عليه واجبات ليتحقق التواصل المتبادل بكل أبعاده؛ لنتدبر الآية الكريمة: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد(ق: 37). فلابد في العملية التواصلية بعد ركن المرسل للرسالة المؤثرة، من مرسل إليه بصفات وسمات خاصة وهي: المحل القابل لمضامين الرسالة، والشرط القائم وهو السمع والإنصات، وانتفاء المانع والمانع هو عدم حضور القلب؛ كالشرود وعدم التركيز، إذ لابد لتحقيق الغرض من العملية التواصلية من حضور القلب والوعي كما نقول (قلبا وقالبا).
التواصل السياسي: هو قدرة الفاعل السياسي على إبلاغ رسالته للجمهور مدعمة بحجج قوية للإقناع، وقدرته أيضا على التجاوب مع رسائل الجمهور بالطريقة التي تحقق رضاهم وتفهمهم. فللنظر في الخطاب الملكي الأخير مثلا؛وكيف كان خطابا غنيا بالرسائل القوية في أبعاد مهمة منها: بُعد البيان؛ فالراعي يبين لرعيته فلسفة عمله الذي يقوم به ويوجه ويحذر وينصح،وبُعد مكان الخطاب (السنيغال) ودلالاته؛ وأهمها عزم المغرب العودة إلى منظمة الاتحاد الإفريقي على وزان الآية الكريمة: ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون(23: المائدة). فالدخول إلى إفريقيا عبر المؤسسة الإفريقية سيفيد الأسرة الإفريقية في مختلف المجالات، وسيعطي للمغرب موقعا قويا للدفاع عن القضية الوطنية، وتصحيح المغالطات، ومنع المناورات وتحقيق الغلبة الحضارية على أعداء الوطن وأعداء الحرية وأعداء التضامن. وبُعد الدعوة لتمتين البناء الداخلي؛ وذلك بالتوجيه إلى تشكيل حكومة جادة ومسؤولة، تبني قراراتها على التخطيط المحكم وتحديد الأولويات واعتماد الكفاءات المؤهلة في التدبير. ولنتأمل في التجربة السياسية الأمريكية الأخيرة –بغض النظر عن أحكام القيمة، فالكل يعلم أن الحزبين الديمقراطي والجمهوري لايقدمان للمواطن الأمريكي برامج توعيه سياسيا، وإنما يركزان على إشباع تطلعاته الاقتصادية الاستهلاكية- لقد فوجئ الكثير بفوز المرشح الجمهوري “دونالد ترامب” في الانتخابات الأمريكية الأخيرة على المرشحة عن الحزب الديمقراطي “هيلاري كلينتون” التي دعمتها امبراطورية إعلامية جبارة، بسبب قدرته التواصلية في إبلاغ رسالتين تستجيبان لانتظارات الجمهور الأمريكي فالرسالة الأولى تتجلى في تقديم نفسه كزعيم قوي ينسجم مع ثقافة العقل الجمعي الأمريكي”الكوبوي”، والرسالة الثانية هي مقاومة المد الديموغرافي للأمريكان ذوي الأصول الإفريقية ومن أمريكا اللاتينية الذي اخترق مؤسسات القرار بأمريكا وينافس العنصر الأمريكي ذي الأصول الأوروبية الأنجلوساكسونية. كما استطاع أن يقدم نفسه بأنه الأقدر على فهم الشعب الأمريكي ومطالبه. إن القضية ليست فقط في التواصل لكن في طبيعة الرسائل المستعملة ومدى استجابتها لتطلعات المرسل إليهم. وعلى نفس الوزان نقول لا يسلك إلى أذن (المحكور)، إلا صوت يبشر بالعز والكرامة. ولضمان نجاح التواصل السياسي تشترط حيادية الفاعلين داخل وسائل الإعلام.وانخراط المتلقي في العملية السياسية بمشاركته في إظهار رأيه في مجموعة من القضايا السياسية والشؤون العامة.
يتبع
د.محمد الحفظاوي
————-
1 – لسان العرب: مادة(وصل).
2 – ricard (indy) communication,thelandsfordpub .co,california ,1973 نقلا عن كتاب الاتصال الفعال في العلاقات الإنسانية والإدارة للدكتور مصطفى حجازي:18.
3 – الاتصال الفعال في العلاقات الإنسانية والإدارة للدكتور مصطفى حجازي: 19-20. وقد وجدت هذا النص بأغلب مفرداته في كتاب: تقنيات التواصل والتحرير بالإدارة العمومية لعبد العزيز أشرقي مطبعة النجاح الجديدة، طبعة أولى:1421هـ-2000 مص:16.
4 – فن القراءة للدكتور عبد اللطيف الصوفي:152،151.