عن عمرو بن عوف رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع النبي ﷺ ، فلما انصرف تعرضوا له، فتبسم رسول الله ﷺ حين رآهم، ثم قال:” أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء” قالوا: أجل يا رسول الله، قال:” فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم” (صحيح البخاري).
إن الناظر في نصوص الشريعة الإسلامية يقتنع بحقيقتين اثنتين:
أولاهما: أن المال ملك لله تعالى.
وأخراهما: أن المال من الكليات الشرعية.
ثم إذا صرف هذا الناظر بصره عن تلك النصوص وانقلب إلى واقعه، يجد أن ما قرره الشرع ضعيف الوجود وقليل الأثر في تصرفات الناس اليومية، مما يدفع إلى التساؤل عن حق الإنسان في المال؟ وعن الغاية من اعتباره ضروريا في الحياة؟
أولا: الإنسان يمتلك حق الانتفاع:
ينتفع الإنسان بالمال في الدنيا وفق نظام إسلامي متكامل؛ يبدأ ببيان طرق كسبه، وكيفية إنفاقه، وينتهي بالمحاسبة عليه يوم القيامة، وكل ذلك نابع من مبدأ المشروعية، فلا حق لأي مخلوق في مال الله، إلا وفق مراد الله، ومنهج الله؛ لذلك لم يترك الشرع الحكيم تصرف الإنسان في المال وفق رغباته، بل جعله من ضروريات الحياة بقدر ما تتوقف عليه الحياة. وذلك بغية انتفاع الجميع بما قسم الله له في ماله، ولتحقيق هذا القصد أنشئ بيت المال الذي تجمع فيه أموال المسلمين كما جاء في حديث عمرو بن عوف : «أن رسول الله بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين ليأتي بجزيتها، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع النبي ، فلما انصرف تعرضوا له، فتبسم رسول الله حين رآهم، ثم قال: «أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء» قالوا: أجل يا رسول الله.
لا شك أن المال الذي جاء به أبو عبيدة هو لعامة المسلمين؛ الحاضر منهم والغائب، القوي والضعيف، الشريف والوضيع، فكل يستفيد حسب ما قدره له الشرع، وبالطريقة التي يراها نبي الله ، ويدل على هذا قدوم الأنصار إلى النبي لأخذ نصبيهم من بيت المال، وما قدومهم ذلك إلا لكونهم يعلمون أن لهم حق الانتفاع بهذا المال العام، وهو ما فهمه الرسول حين تبسم لهم، وذلك إقرار منه بمشروعية قدومهم، ومشروعية طلبهم، قال ابن حجر: “يؤخذ من الحديث أنهم اجتمعوا لأمر، ودلت القرينة على تعيين ذلك الأمر وهو احتياجهم إلى المال للتوسعة عليهم… فلما قدم المال رأوا أن لهم فيه حقا”(1). فحق الإنسان في الانتفاع بمال الله تعالى، ينحصر في ثلاثة أمور:
1 – التمتع به بأكل الطيبات ما دام حيا.
2 – ستر العورة والتزين به حسب القَدر والقُدرة.
3 – التصدق منه حسب حاجات الأمة وعلى قدر المستطاع.
ويستعمل الإنسان المال في هذه المسائل الثلاثة بالترتيب المبين من خلال قوله : «يقول ابن آدم: مالي، مالي، قال: وهل لك، يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟» صحيح مسلم.
وهذا تصريح واضح من النبي بكون الإنسان يمتلك حق الانتفاع فقط. بيد أن حبه الشديد للمال يدفعه إلى نسيان هذه الحقيقة، ويتصرف وفق اعتقاد جازم أن المال الذي حصل عليه أو يحصل عليه هو ملك له يفعل به ما يشاء دون قيد أو شرط، فيرفع بذلك شعار قارون حين قال إنما أوتيته على علم عندي(القصص: 78) وهذه بداية الغرور، والتوجه نحو الطغيان والتكبر، وتجاهل لمنطوق قوله تعالى: آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه (الحديد: 7).
إن امتلاك الإنسان لحق الانتفاع بالمال؛ بالإضافة إلى كونه حقيقة شرعية، فهو أيضا حقيقة واقعية، تبرز عند رحيل المنتفع به عن الدنيا، لكن الرغبة الشيطانية تدفع الإنسان إلى التشبث بهذا المال، فيجعله وسيلة يستعبد بها نفسه، ويستعبد بها غيره، تلبية لنداء الشيطان في قوله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء(البقرة: 268). فهو يؤكد للإنسان أن إنفاق المال في جانبه المشروع طريق إلى الفقر، وإنفاقه في المنكر، والتسلط، شيء طبيعي وضروري، لأن المال ملك له، وخوفا من الوقوع في هذا الاعتقاد الشيطاني، كان عمر يدعو: “اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللَّهم إني أسألك أن أنفقه في حقه” (صحيح البخاري).
عبر عمر عن أمرين اثنين:
الأول: أن النفس مجبولة على حب المال وتفرح بجمعه وادخاره.
الثاني: أن التصرف في المال مرتبط بالخضوع لشرع الله تعالى.
إن الإنفاق الذي سأل عمر أن يوفقه الله إليه؛ هو ما جسده النبي بتبسمه للأنصار عندما طالبوا بحقهم؛ فقال لهم:” فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم ..” بشَّرهم بعدله في نيل حظهم، لأن الراعي في تصور الرسول ﷺ له سلطة الحماية، والحفظ، والتوزيع، للمال العام، وان كل من له حق شرعي فيه سيصله، وهذا تجسيد عملي لحق الانتفاع بالمال.
ثانيا: المال وسيلة المسلم لتحقيق العبودية لله جل وعلا:
يبين هذه الحقيقة قول بعض الصحابة رضي الله عنهم للنبي «ذهب أهل الدثور بالأجور» (صحيح مسلم). فالمال هنا تميز به الغني لأنه يتقرب به إلى الله تعالى، وهذا سر تبسم النبي في وجه أصحابه؛ لأنه يعلم أنهم سيوظفونه لتحقيق العبودية لله سبحانه، فهم ليسوا من محبي المال لأمور الدنيا، فقال : «فأبشروا وأملوا ما يسركم» ثم حذر أمته من التنافس في المال، فقال : «فوالله ما الفقر أخشى عليكم» قال ابن حجر: “لأن مضرة الفقر دنيوية غالبا، ومضرة الغنى دينية”(2). ولا شك أن ضياع الدين الذي ترتبط به الحياة الباقية أقل ضررا من ضياع الدنيا الفانية.
بين الرسول أن هلاك المجتمع الإسلامي يبدأ حينما يوظف المسلمون المال في غير محله، فقالﷺ: «ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم»؛ قال ابن حجر: “لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه فتمنع منه فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك” (3).
فالهلاك الذي حذر منه الرسول له مفهوم دنيوي جماعي، بحيث إن معظم الصراعات بين أفراد أمته سيكون سببها التنافس على المال جمعا وادخارا، وهلاك فردي أبدي يرتبط بضياع الآخرة بسبب التنافس في جمع المال دون وجه حق؛ بالسرقة، والغصب، والرشوة، والاختلاس، وبسبب إنفاقه في المحرمات من خمر، وميسر، وإسراف فيما لا فائدة فيه، قال : «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل ….عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه» (سنن الترمذي).
معظم الناس بالغوا في حبهم للمال إلى درجة ربط مصيرهم من أوله إلى أخره بوجوده، بل أصبح المال يتحكم في مزاجهم سخطا ورضى؛ فإذا كان لهم المال فرحوا ورضوا، وإذا ذهب عنهم سخطوا وكرهوا، وتناسوا كل النعم التي أعطاهم الله تعالى من صحة، وعقل، وبصر، وعلم… فحولوا المال من وسيلة للتعبد إلى وسيلة للاستعباد، وصدق نبي الله حين قال: «تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض» (صحيح البخاري).
إن التقرب إلى الله بالمال ليس معناه أن الإسلام يرفض كسب المال والتمتع به فيما أحل الله، بل إن تسخير المال في مصلحة مشروعة عامة أو خاصة هو عين التعبد لله بالمال، وهو إنفاق له في مرضاته تعالى، فالمال وسيلة أساسية لبناء الحضارة الإسلامية، وفرض وجودها بين الحضارات الإنسانية، سياسيا واقتصاديا وثقافيا … بل هو أمر ضروري في عصرنا حتى في مجال الدعوة إلى الله لنشر تعاليم الدين الإسلامي. وكلنا نعلم كيف يوظف المال في الحملات التبشيرية في الدول الفقيرة في آسيا وإفريقيا وغيرهما، فالإسلام أولى بذلك؛ لأنه دين الحق يسعى لإخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان والتوحيد، وهذا عين التعبد لله بالمال.
إن المال هو العنصر المتحكم الآن في تقرير مصير الشعوب، فالذي يملك اقتصادا قويا يملك حق القرار في المؤسسات الدولية، لكن ما نأسف عليه أن المجتمعات الإسلامية تسخر ثرواتها؛ إما لخدمة مصالح نخبة من الأغنياء المتسلطين، وإما للحروب فيما بينهم فيهلك بعضهم بعضا مصداقا لقوله : «ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم» فمال المسلمين يوظف في تحقيق شهوات ورغبات البعض منهم، وأصبحت طائفة منهم تنزعج من تسخيره فيما ينفع الأمة من علم وإبداع، بل يسعون حثيثا لإقناع أنفسهم وغيرهم بأن إنفاق المال من أجل العلم تضييع له، ومن أجل الرقص والفحش نماء واستثمار فيه، وهذا عين الهلاك الذي حذر منه النبي.
ذ. محمد البخاري
—————
1 – ابن حجر دار المعرفة ج6/ 263
2 - ابن حجر ج 11/ 245
3 – المصدر نفسه، ج 11 / 245