يمنّ الله تعالى على عباده بأن أصحاب الجنة لا خوف عليهم ولا يحزنون(يونس:62). ويبشر المؤمنين بأن من نعيم الجنة عدم الخوف: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون(الأنعام: 49). وهذه البشرى تسبق للمومنين في الدنيا: فمن تبع هداي فلا خوف ولا هم يحزنون(البقرة: 38)، بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون(البقرة: 112). وعلى هذا فالخوف يوم القيامة قرين العذاب المهين.
ولكن الخوف في الدنيا قد يكون نعمة لا تعدلها نعمة، إذ التحقق بهذه الصورة من صور الخوف تحقق للمرء السعادة القصوى في الدنيا، ويهون عليه فيها كل شيء مما قد يصيب البشر، وهذه الصورة هي التي يتحقق فيها الخوف من الله رب العرش العظيم. فإبراهيم عندما هدده قومه قال لقومه: وكيف أخاف ما أشركتم(الأنعام:81)، أي إنه لا يستقيم أبدا الجمع ما بين الخوف من الله والخوف مما سواه. فلما استيقن الخليل الخوف من الله هان عليه ما سواه، وصغرت في عينه معبودات قومه، واستهان بما يهددونه به من ألوان العذاب. وهكذا كان في نعمة من خوف ربه، وهم يحسبون انهم يخوفونه بما يشركون.
وقد ذكر الله تعالى الخوف مقترنا بالنعمة في قصة موسى وقومه، وهم يواجهون عدوهم: وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبئاء وجعلكم ملوكا وءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مومنين(المائدة: 20-23). فلأن الله أكرم هذين الرجلين بنعمة الخوف، أزال سبحانه من قلوبهما مهابة الأعداء.
قال صاحب المفردات: “ونهى الله تعالى عن مخافة الشيطان والمبالاة بتخويفه، فقال: إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مومنين(آل عمران: 175).أي فلا تأتمروا لشيطان وائتمروا لله”. لا يجتمع إذن في قلب عبد مخافة الله تعالى ومخافة الشيطان.
ومن خصائص عباد الله المومنين اجتماع الرجاء والخوف في قلوبهم، ابتغاء مرضاة الله تعالى: يرجون رحمته ويخافون عذابه(الإسراء: 57). وقال سبحانه: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا(السجدة: 16). ويخوف الله تعالى عباده من معصيته، إشفاقا عليهم، وحبة لهم، كي لا يقعوا في العذاب المقيم الذي تمثله جهنم، التي يستعيذ بالله منها “عباد الرحمن”، إذ كان من دعائهم: ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما. يقول سبحانه مخبرا عن أحوال أصحاب النار، ومحذرا المومنين من أوليائه: لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون(الزمر: 16).
وكما وجدنا في القرآن الكريم ترغيبا وترهيبا، باستعمال الخوف، كذلك نجد مثله في الحديث الشريف.ففي الحديث الشريف ترغيب في الخوف والرجاء. ومن ذلك: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة». (رواه الترمذي، وقال : حديث حسن). قال أهل العلم: “أدلج: يعني مشى في الدلجة، وهي أول الليل، ومن أدلج بلغ المنزل، لأنه إذا سار في أول الليل، فهو يدلّ على اهتمامه في المسير، وأنه جادّ فيه، ومن كان كذلك بلغ المنزل”.
وقد ساق لنا رسول الله المعنى بضرب المثل، وضربُ المثل أبلغ في التعبير، وأبين في التصوير، ولذلك كثرت الأمثال في كتاب الله تعالى وحديث رسوله ، وهذا الحديث مما يكشف لنا بلاغة رسول الله ، وهو الذي أوتي جوامع الكلم.فقد بدأ المثل بأن جعل أول السير مقترنا بالخوف، ومنتهاه مقترنا بالوصل إلى الجنة، وبين المبتدأ والمنتهى هذه الرحلة الليلية العجيبة التي يسعى صاحبها جادا إلى بلوغ المنزل، الذي هو ليس شيئا آخر غير الجنة، حيث ينتفي فيها عن المومن الخوف الذي كان سببا في دلجته ورحلته. فثبت الخوف في بداية الحديث، وانتفى في نهايته.
أ.د. الحسن الأمراني