في مثل هذه المقالات السريعة، التي تحدد مساحتها وفق ظروف المجلة التي تنشرها ومواصفاتها، يضطر الباحث إلى أن يجعل مقالته أفكاراً أساسيّة في قواعد موجزة، تاركاً للقارئ أن يحلل هذه الأفكار ويصل بها إلى الأهداف التي رسمها كاتبها في هذه السطور القليلة، أو أن الباحث يدّخر هذه المقالة المركزة؛ ليعود إليها في احتفال آخر، فيجعل منها بحثاً وافياً يشرح فيه فكرته العامة، ويطرح فيه رأيه الجديد، عساه أن ينتشر في محيط أوسع، وتصل فكرته إلى أوسع مدى يرجوه، لأنه إنما يبتغي به وجه الله في إظهار شرعه الحكيم وحكمته البالغة، فيما أودعه في كتابه الكريم من علم لا تنتهي عجائبه.
وعلى هذا المنهج أقدم فيما يلي هذه الأفكار المتكاملة، التي يفضي بعضها إلى بعض لتوضيح الفهم الجديد لموضوع الترتيل القرآني، وبيان وظيفته التي أرادها الله ، فأنزله على الصورة التي نعرفها الآن، ونقرأ بها القرآن، لكي تكون المنهاج الإلهي الذي أحكمه الله لحفظ القرآن الكريم إلى يوم الدين.
ذلك أن الله ، شاءت سنته التي لا تبديل لها في خلقه، أن ينزل على كل رسول من رسله كتاباً فيه الشرع الحكيم، الذي أراده الله لذلك الرسول ولأمته في زمنه. ولكي يواجه الرسل أقوامهم المكذبين، المعاندين، أيد الله كلاً منهم بمعجزة من عنده، أو بمعجزة من اقتراح القوم أحياناً، لكي تثبت لهم أن هذا (الإنسان) إنما هو رسول من الله.
مثال ذلك موسى إذ أنزل الله عليه كتاباً: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ(البقرة: 87)، وأيده الله عز وجل بمعجزة خارقة، ألقي السحرةُ بعدها ساجدين، قائلين: آمنا برب موسى وهارون. لماذا؟ لأن هؤلاء السحرة يعلمون علم اليقين –وهم أساطين السحر وفرسانه في زمنهم- أنه ما من بشر يمكن أن يجعل حبلاً أو عصا أفعى حقيقية، بل هو خداع لأعين الناس، فلما رأوا موسى يرسل العصا فتصبح أفعى حقيقية، علموا أن موسى رسول من رسل الله لا شك في ذلك ولا ريب.
وهكذا جرت سنة الله مع كل الأنبياء والرسل قبل سيدنا محمد .
وجرياً على سنة الله مع أنبيائه ورسله، أنزل سبحانه وتعالى على رسوله محمد كتاباً وأيده بمعجزة. فأما الكتاب فهو هذا الكتاب الخالد الذي انتشر ضوؤه فسار ذكره مع الشمس والقمر، وبلغ مداه الليل والنهار. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا(الكهف: 1).
وأما المعجزة، فإنها هي المعجزة، وهي المفاجأة التي صدعت الناس، وأذهلت العقول، وقدمت من السنن والبراهين على قدرة الله ما لا ينتهي القول فيه، فالناس أمامها إما مؤمن مصدق، وإما كافر مكذب، ولا يزالون مختلفين.
كانت معجزات الأنبياء السابقين تختلف اختلافاً بيناً عن الكتب السماوية التي تتنزل عليهم، فالكتاب إلى النبيّ شيء ومعجزته شيء آخر…
أما معجزة سيدنا محمد فهي الكتابُ نفسه… الذي أنزله الله على صورة القرآن الكريم!!! ما هذا؟ هذا قول الحق. وهذا الفهم الصحيح للسياق القرآني المعجز، لنتدبر –معاً- الآيات الكريمة التالية:
- ألر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(يوسف: 1-2).
- الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ(الحجر: 1).
- طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ(النمل: 1).
- حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(فصلت: 1-3).
هي دعوة إذن لكي نعقل ولكي نعلم. الكتابُ فصلت آياته قرآناً عربياً، وأنزله الله قرآناً عربياً. أتدرون ما الحكمة في ذلك؟
إن القرآن الكريم أنزل على قوم هم أساطين البيان وملوك القول، وسحرة الفصاحة والبلاغة، كانوا وما زالوا كذلك، تماماً مثل ما كان قوم موسى أساطين السحر. فكما أدرك سحرة فرعون بأن هذا الذي جرى أمامهم لا يمكن أن يفعله بشر إلا بإذن الله، أدرك العرب، أهل الفصاحة والبيان أن هذا القرآن ما هو بقول بشر. وقد أعلنوها صراحة أمام الدنيا جميعها ولا زال صدى إعجابهم بالقرآن الكريم يتردد على مر القرون، على اتساع المكان وامتداد الزمان.
ثم إن اللغة –أي لغة- إنما يتعلمها الناس بالاستماع، والمرء منذ ولادته يبدأ بتعلم لغته، يتعلم ما يسمع، ولأمر ما قرن الله في القرآن الكريم بين آيات السمع والبصر وآيات الخلق: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ(السجدة:9). وبرهان ذلك: إننا لو أخذنا من عدة أقطار أطفالاً حديثي الولادة، ثم أسكناهم مكاناً واحداً من الأرض، مدينة واحدة، نفترض أنها القدس –مثلاً- فبعد عشر سنوات سنجد أمامنا أطفالاً عرباً بلغتهم ولهجاتهم وعاداتهم وثقافتهم وطبيعة أصواتهم، ولو أننا أخذنا توأمين وُلِدا في مدينة عربية، وتركنا أحدهما في بلده، وأخذنا الآخر إلى باريس مثلاً، فبعد عشر سنوات يكون الأول عربياً بلغته وثقافته وطريقة نطقه للأصوات، وشقيقه التوأم فرنسياً في كل ذلك.
شاء الله أن ينزل الكتاب قرآناً يتلى على رسوله ، لكي يقرأه على الناس، فيستمعوا إليه، ويتقنوه، ويحملوه إلى كل الأمكنة، والأزمنة بعد ذلك… ثم إن الله أراد أن يحفظ القرآن الكريم إلى يوم الدين، فجعل طريقة قراءته موحدة أمام الناس جميعاً فأنزله مرتلاً وأمر بترتيله منذ بدء نزوله، تدبروا قوله :
- وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا(الفرقان: 32).
- أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً(المزمل: 4).
خبر وأمر.
عليك إذن أن تؤمن بقضاء الله، ورتلناه ترتيلاً وعليك أن تلتزم بأمر الله ورتل القرآن ترتيلا. إن هذا المعنى يتأكد عندما نقرأ قوله تعالى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(القيامة: 16-19).
وقوله تعالى فاتبع قرآنه أي اتبع طريقة قراءته كما قرأها جبريل ، وهي الترتيل الذي سيظل قائماً إلى يوم الدين.
أيها السادة: إن إلزام الناس بالصورة الصوتية الموحدة لقراءة القرآن الكريم منذ بدء نزوله، إن هي إلا إعلان للناس جميعاً، للذين يعقلون، والذين يعلمون، أن هذا القرآن الكريم إنما أنزل ليظل قائماً كما أنزل، يقرؤه كل أهل الأرض إذا استمعوا إليه كما أنزل، لا فرق بين آسيوي وأمريكي وأسترالي وأوروبي وعربي وإفريقي، وها هي الملايين من أهل الأرض يقرأون القرآن ولا يعرفون اللغة العربية؛ لأن الله يسره للذكر، ويسره للحفظ، ووحد طريقة تلاوته ليكون (الترتيل القرآني) هو المنهاج الإلهي الخالد لحفظ القرآن الكريم أولاً ولانتشاره على مر القرون، وليظل معجزة الرسالة الخالدة إلى يوم الدين.
أرأيتم أيها الإخوة بعض الحكمة في أن الله أراد أن تكون أول كلمة أنزلت من القرآن الكريم هي (اقرأ).
والحمد لله رب العالمين.
د. عودة خليل أبو عودة
مجمع اللغة العربية الأردني