نتابع مناقشة مضامين النص الذي استشهدنا به في الحلقة 22 المحجة عدد 466 على أول مستوى من مكونات الكلام في اللغة العربية الذي هو “كيفية الكتابة” أو المستوى الإملائي، وقد قَدَّمْنَا نماذج من أحرف المعاني التي تحتمل الكتابة بأكثر من وجه بحيث تكون لكل وجه دلالته الخاصة، وبدأنا في مناقشة الحالة الأولى من بين الأمور الثلاثة التي تثير الانتباه في النص المذكور، وجَرَّدْنا من النص عددا من الأمثلة التي تتضح فيها دلالات مكونات الكلام المضمنة في قواعد النص الملقن مع توجيه الخطاب للمتعلم الفرد المفترض، وخلصنا إلى نتيجة هي أن هذه الظاهرة المنهجية حاضرة عند مؤسسي قواعد اللغة العربية مثل سبويه، ولذا لابد من إثبات حجج تشهد لما نزعمه، ومن ذلك ما يلي:
1 - لاحظنا في المثال رقم “ب” من بين الأمثلة التي جردناها من نص ابن قتيبة أنه مستهل بفعل أمر: “اعلم أن الحرف يتصل”، وهذه الصيغة؛ أي كلمة فعل أمر “اعلم” تتصدر أكثر من ثلاثمائة قاعدة في كتاب سبويه، والعدد الذي جردناه بالضبط من كتاب سبويه من هذا النوع من القواعد هو سبعة وعشرين وثلاث مائة (327). والقصد من القواعد المدرجة بعد فعل “اعلم” هو التوضيح أو التدقيق في شرح قواعد عامة أو خاصة متميزة بصفة مّا في سياق عرضها ضمن قواعد الباب. فمن القواعد الجزئية التي صيغت في مفهوم عام قوله: “واعْلَمْ أنَّكَ إذا ثَنَّيْتَ الواحد لَحِقَتْهُ زيادتان: الأولى منها حرف المد واللين، وهو حرف الإعراب غير متحرك ولا منوّن… وتكون الزيادة الثانية نوناً كأنها عوض لما منع من الحركة والتنوين…” (ك 1/17-18). وقوله: “وإِذَا أرَدْتَ جمع المؤنث في الفعل المضارع ألحقت للعلامة نُوناً وكانت علامة الإضمار والجمع فيمن قال: أكلوني البراغيث، وأَسْكَنْتَ ما كان في الواحد حرف الإعراب…” (ك 1/13-20). مثل هذه الجزئيات واردة في باب مجاري أواخر الكَلِمِ وهي ثمانية مجار: على النصب والجر، والرفع، والجزم، والفتح، والضم، والكسر، والوقف”.
وهذه التسميات الثمانية يعبر بها عن علامات الإعراب والبناء، ولا شك أن حالة الكلمات المفردة من الأسماء أو الأفعال المسندة إليها مباينة في شكلها لحالتي التثنية والجمع والتأنيث، ولذا استعمل المؤلف هذه العبارة المنبهة إلى الانتقال من الإفراد إلى التثنية “واعلم أنك إذا ثنيت الواحد لحقته زيادتان”، و”إذ أردتَ جمع المؤنث”؛ لأن المؤلف يستحضر في اعتباره المتعلم المخاطب المحتمل في أي زمان ومكان بدليل استعماله لضمير الخطاب “ثَنَّيْتَ” و”أَرَدْتَ”.
وقد يتعلق الأمر في هذا السياق بصفة من الصفات المميزة لنوع من الكلمات في اللغة العربية أو لنظامها بصفة عامة مثل قوله: “واعلم أن بعض الكلام أثقل من بعض، فالأفعال أثقل من الأسماء؛ لأن الأسماء هي الأولى، وهي أشَدُّ تمَكُّناً، فمن ثم لم يلحقها “أي الأفعال” تنوين ولحقها الجزم والسكون؛ وإنما هي من الأسماء، ألا ترى أن الفعل لا بد له من الاسم، وإلا لم يكن كلاما، فالاسم قد يستغني عن الفعل تقول: الله إلهنا، وعبد الله أخونا. ومن هذا القبيل قوله: “واعلم أنَّ النَّكرة أخف عليهم من المعرفة، وهي أشد تمكناً؛ لأن النكرة أوّل، ثم يدخل عليها ما تعرف به فمن ثم أكثر الكلام ينصرف في النكرة. واعلم أن الواحد أشد تمكماً من الجميع، لأن الواحد أوّل ومن ثَمَّ لم يصرفوا ما جاء من الجميع ما جاء على مثال ليس يكون للواحد، نحو مساجد ومفاتيح. واعلم أن المذكر أخف عليهم من المؤنث؛ّ لأن المذكر أول وهو أشد تمكناً، وإنما يخرج التأنيث من التذكير..” (ك 1/20-22).
هكذا تتضح أهمية المفاهيم التي ينبه إليها المؤلف بقوله “اعلم” فالمقارنة بين مميزات الاسم والفعل تُعْتَبَر أس الخطاب في اللغة العربية، وتتضح هذه الأهمية عند تتبعنا للعبارات المؤلفة من النوعين عندما نتأمل وظيفة كل منهما المحورية في الكلام. وقد يتجاوز قصد المؤلف الحديث عن أصناف الكلمات المفردة إلى النّظام الذي يحكم علاقاتها في الكلام، وذلك مثل قوله: “واعلم أن المبتدأ لا بد له من أن يكون المبنيُّ عليه [أي الخبر] شيئا هو هو. أو يكون في مكان أو زمان، وهذه الثلاثة يذكر كل واحد منها بعدما يبتدأ.
فأما الذي يُبْنَى عليه شيء هو هو، فإن المَبْنِيَّ عليه يرتفع به كما ارتفَعَ هو بالاِبْتِدَاء، وذلك كقولك: “عبدُ الله مُنْطَلِقٌ، ارتفعَ عبدُ اللهِ لأنه ذكر ليُبْنَى عليه المُنطلِقُ، وارتفعَ المنطلقُ لأنَّ المَبْنِي على المبتدأ بمنزلته…”. (ك 2/127).
هكذا يُنَبِّهُ المؤلف في هذا النص إلى ضوابط منطلق الجملة الاسمية البسيطة التي هي المبتدأ والخبر حيث وضح العلاقة التي تربط بينهما بقوله: “هو هو”، مثل عبدُ الله منطلقٌ؛ لأن عبدَ الله هو المنطلقُ والمنطلقُ هو عبدُ الله لأن الكلام لا يستقيم بالخبر الذي ليس هو المبتدأ في معناه، وقد لا يكون الخبر من هذا النوع ولكنه قد يكون ظرفا للمبتدأ وهو ما عبر عنه بقوله: “أو يكونَ في مَكانٍ أو زمانٍ”.
وعند تأملنا لعدد كثير من المفاهيم العامة أو الخاصة التي صدرها المؤلف بقوله: “اعلم” تلاحظ أنها حالات خاصة في سياق القواعد العامة التي تندرج في باب معين، وقليلة هي الأبواب المصدرة بكلمة “اعلم” وهذا ما يوجب استخراج هذه المفاهيم والوقوف عندها لضبط ما تحمله من دلالات، لأن أغلبها غير منصوص عليه في فهرس المؤلف بفتح اللام.
وهكذا نلاحظ أيضا أن سبويه استعمل أحد مشتقات البناء “يبنى” الذي يتضمن الباء والنون لوصف بناء الجملة الاسمية التي لها وظيفة دلالية خاصة وهذا ما يمكن تطبيقه على جميع مكونات الكلام من الكلمات المفردة بما في ذلك حروف المعاني والمركبات وهو ما ينبغي أن يكون متعلم اللغة العربية على بينة منه؛ لأن سبويه يستحضر المتعلمَ المخاطبَ بضمير مناسب له، وهذا ما يتضح في نصوص عند سبويه أكثر من سواها وذلك مثل قوله: “هذا باب ما يكون فيه الاسم مبنيا على الفعل قُدِّم أو أُخِّرَ وما يكون فيه الفعل مبنيا على الاسم”.
فإذا بنَيْتَ الاسمَ عليه قُلْتَ: ضربت زيداً، وهو الحد لأنَّكَ تريد أن تُعلمه وتحملَ عليه الاسم؛ كما كان الحد ضَرَبَ زيدٌ عمراً، حيث كان زيد أوّل ما تشغل به الفِعْلُ، وكذلك هذا إذا كان يعمل فيه، وإن قدمت الاسم فهو عربي جيِّداً كما كان ذلك عربيا جيداً، وذلك قولك: زيداَ ضربتُ، والاهتمام والعناية هنا في التّقديم والتّأخير سواء، مثله في ضربَ زَيْدٌ عَمْراً وضرَبَ عَمْراً زَيْدُ.
فإذا بَنَيْتَ الفِعْلَ على الاسم قُلْتَ: زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ فلزمته الهاء، وإنما تريد بقولك: مبني عليه الفعلُ أنه في موضع منطلق إذا قلت: عبد الله منطلق فهو في موضع هذا الذي بني على الأول وارتفع به، فإذا قُلْتَ: عبدُ الله فنَسَبْتَهُ له، ثم بنيتَ عليه الفعلَ ورفعتَه بالابتداء…
نقف عند هذا القدر من مادة هذا الباب الذي يتناول بالشرح والتحليل الجملة الفعلية، وقد استعمل من مشتقات البناء الفعل: بنيت واسم الفاعل مبني، لكن الذي يلفت الانتباه أكثر أن هذا النص يتضمن كثيرا من ضمائر الخطاب للشخص المفرد، وهو ما سميناه سابقا بالمتعلم المحتمل، ونظرا لطول مادة هذا الباب سنأجل التعليق على ما يتضمنه من إشارات للمتعلم المحتمل إلى الحلقة المقبلة بإذن الله تعالى.
يتبع
د. الحسين كنوان