القرآن الكريم منهج لا يوازيه منهج في الاستقامة و الشمول، فهو أقصر سبيل وأوضحه، وأقربه إلى الله ، وأشمله لبني الإنسان. ومن ثم فإنه لا سلامة لهذه الأرض، ولا راحة لهذه الأمة، ولا طمأنينة لهذا الإنسان، ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة، إلا بالرجوع إلى القرآن الكريم.
نعم، إن الرجوع إلى القرآن الكريم في الرؤية والمعرفة، له صورة واحدة وطريق واحد، إنه العودة بالحياة كلها إلى منهج الله الذي رسمه للبشرية في كتابه العزيز، وإلا فسيحل الفساد في الأرض، والشقاوة بالإنسان، والارتكاس في الضلالة والتيه والهوى.
وتجدر الإشارة إلى أن الاحتكام إلى القرآن الكريم، ليس نافلة ولا تطوعا ولا موضع اختيار، بل هو الإيمان الحقيقي، واليقين الصادق، و المنهج الوحيد الكفيل بمجابهة سائر المناهج الوضعية والفلسفية التي تقوم على التحريف والتزييف والتزوير لحقائق الكون والوجود والإنسان، يقول الله سبحانه و تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(الأنعام: 153). وروى النواس بن سمعان عن النبي قال: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعا، ولا تعرجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم» (أخرجه الإمام أحمد، وهذا لفظه، والإمام النسائي في ” تفسيره ” والإمام الترمذي وحسنه).
فمن خلال النصين السابقين تتبيّن الرؤية الواضحة والاختيار الواحد الحاسم بين الصراط المستقيم الذي يقود إلى الله ، وبين السُّبل التي تفرق الناس عن سبيل الله؛ لأن المنهج الأول يسير بالإنسان إلى الكرامة والحرية والخلاص، في حين أن المنهج الثاني يسير بالإنسان يقينا إلى العبودية والامتهان والشقاء.
وعليه فإن فطرة الإنسان متديّنة ابتداء، ولكن فقدانها التوازن نتيجة سلسلة من الضغوط أو القسر، هو الذي يجنح بالإنسان نحو الإلحاد والزندقة، فمن خلال اليأس والضيق والاكتئاب يلجأ الإنسان إلى العبثية والفوضى والفساد التي من ورائها شرور ومآسي ومتاعب.
ابتداء بعلاقة الأسرة؛ الزوج مع زوجته، والأب مع أبنائه؛ وانتهاء بالعلاقة بين المجتمعات البشرية؛ الإنسان مع أخيه الإنسان والشعوب والأمم بينها في العالم كله.
بيد أن الرسول حذّر من هذا المصير المفجع عندما شبّه التجربة الاجتماعية بمجموعة من الناس في سفينة تبحر إلى هدفها المنشود، غير أن بعض ركّابها يبيحون لأنفسهم أن يعبثوا فيها حيث يجلسون، فإن لم يأخذ الآخرون على أيديهم هلكوا جميعا.
ومن هنا فإن شريعة الله سبحانه وتعالى تنبثق من المعرفة الكاملة المحيطة والرؤية الشاملة التي تنفذ إلى أعماق الأشياء والظواهر، إنها تضع النظم والضوابط والقيم والمعايير لجماعة هي من خلق الله وصنعه، قال الله تعالى: أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير(الملك:15).
إن القرآن الكريم يقدم لنا رؤية متكاملة في التعامل مع التاريخ البشري والانتقال بهذا التعامل من مرحلة العرض والتجميع إلى محاولة استخلاص القوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية التاريخية.
فالقرآن الكريم يلقي ضوءا إيضاحيا على ذلك، يقول الله سبحانه: سَنُرِيهِمُ ءَايَاتِنا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمُ أَنَّهُ الحَق(فصلت: 52). ومن ثم تكون رؤية القرآن للأحداث رؤية واقعية شاملة في امتدادها الزمني – الماضي، والحاضر، والمستقبل.
و من هنا أيضا، يعلم القرآن المسلمين أن يأخذوا من هذه الرؤية الواقعية، والمعرفة الدقيقة، دروسا في صناعة العالم الأفضل والأجمل، يقول المولى : وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين(آل عمران: 139 – 141).
عبد القادر لبيض