في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من عام عُرف في التاريخ بعام الفيل، كان مولد نبي الرحمة محمد .
وُلِدَ الهُدى فَالكائِناتُ ضِياءُ ….. وَفَمُ الزَمانِ تَبَسُّمٌ وَثَناءُ
وُلِد نبيُّ الرحمة وجزيرة العرب تتقاذفها أمواج الجهل والظلم والاستبداد، والعصبية القبلية والأنانية الفردية والمصلحة الذاتية. ساكِنو الجزيرة قبائل متقاتلة متناحرة، وأرضها تحت سيطرة ثلاث قوى على أطرافها الثلاثة: في الجنوب وفي الشمال بِشَطْريْه الشرقي والغربي.
ولد نبي الرحمة ومحيط الجزيرة تتنازعه قوتان كبيرتان: الفرس والروم.
وُلِد نبيُّ الرحمة والعالم كله في غياهب الجهل والتخلف وعدم الاستقرار، وبُعدٍ كبير عن معرفة الله وعبادته.
ثم بُعث إلى نبيِّ الرحمة فكانت بعثتُه ذكراً للعالمين، ورسالتُه رحمةً لهم أجمعين. هي خاتمة الرسالات، وفاتحة لعهد جديد. أنزل الله تعالى عليه كتابا معجزا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، وكما ورد في الأثر: «كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلَا تَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».
وُلِد نبيُّ الرحمة وبُعث إليه والبشرية كلها في أمَسِّ الحاجة إلى من ينقذها مما هي فيه من ظلمات الجهل وضلال العقيدة، ليخرجها إلى نور الإيمان بالله وعبادته وهدايتها إلى الصراط المستقيم، فكانت بعثتُه رحمةً للعالمين كلهم أجمعين.
جاءت بعثته لهداية الناس إلى الصراط المستقيم: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
وجاءت لتحقيق العدل وبسطه وبيان فضائله: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ.
ولتعريف الناس قِيَم الإخاء والمساواة، ودفعهم إلى احترامها وتطبيقها: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ.
ولإتمام مكارم الأخلاق التي لا تُبنى الأسر والجماعات والأمم إلا على أساسها: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ».
ولِدفْع الإنسان إلى عمارة الأرض التي سخرها الله له، وسخر له معها الكون كله: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا.
ولِحَثِّه على عدم الفساد فيها، كيفما كان نوع هذا الفساد معنويا أم حسيا: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا.
وقبل هذا وبعده ليراقب الله تعالى في كل وقت وحين، ويتقيه ما استطاع، حتى تكون أعمالُه، كلُّ أعماله، داخلةً في دائرة العبادة، ويربح بذلك دينه ودنياه: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).
وعلى هذا الهدي سارت أمة الإسلام منذ نشأتها، وعلى مدار تاريخها، قد ينتابها الضعف والانحراف أحيانا، لكن الأصول بقيت راسخة، والمرجعية ثابتة لا تتزحزح.. وشعوب الإسلام ظلت متشبثة بتعاليم دينها، حتى إن التاريخ لم يعرف أرحم من المسلمين، سواء فيما بينهم، أو بينهم وبين غيرهم، ومن المعلوم أن شعوبا وأقواما لم تنعم بالحرية إلا في ظلال حضارة الإسلام.
والآن، ما أشبه الليلة بالبارحة!!!
ما أحوج البشرية في عصرنا هذا إلى الأخذ بتعاليم الإسلام صافية من كل الشوائب، نقية من كل الأخلاط، دون مذهبية أو طائفية، دون عنصرية أو كراهية، دون إفراط أو تفريط، دون تزيُّد أو مزايدة، دون تقَوُّلٍ على الدين من الغرباء والدخلاء، دون ودون… حتى تولد الأمة من جديد…
أ.د. عبد الرحيم الرحموني