في زماننا هذا الذي طغت فيه الماديات والذاتيات، ولم تعد الكلمة العليا إلا للمصلحة الشخصية،
ما أحوجنا إلى الاقتداء بسيرة خير الأنام محمد المصطفى ، فقبسة واحدة من قبسات سيرته العطرة كافية بأن تفرغ العديد من شحنات الشحناء والبغضاء والحقد والعداء والأنانية، ونحو ذلك من الأمراض التي تنخر جسد الأمة، بل وبني آدم عموما، فرادى وجماعات. ويكفي أن نلقي نظرة على بعض القبسات من هذه السيرة العطرة لنعلم أننا قد ابتعدنا عن منهاجها وأننا بحاجة إلى العودة إليها من جديد، ويكفي أن نقف عند منقبة واحدة من مناقبه صلى الله عليه وسلم، وهي منقبة الرحمة.
فمن المعلوم أنه بُعث رحمة للعالمين، كما وصفه رب العزة بقوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وكما قال عن نفسه : «يا أيُّها الناسُ، إنَّما أنا رحمةٌ مُهداةٌ».
نعم رحمة للعالمين، بصيغة الجمع المطلق، ليس فقط بالنسبة للمؤمنين، وليس فقط لبني آدم، وليس فقط للكائنات الحية، وإنما للعالمين،كل العالمين، على سطح الأرض وعلى غيرها مما خلق الله.
ورحمة مهداة للناس كافة، وليس للمؤمنين المسلمين فقط، فمن يقبل الهدية ويعمل بمقتضى مكانتها تكريما لها واقتداء بها؟؟
ومن تجليات الرحمة المهداة للعالمين التي تجلت في خُلُقه ، ووقف عندها العديد من العلماء والدعاة ما يلي:
أن الله تعالى لم يعذب من حاربه عذاب استئصال كما حدث مع العديد من الأمم السالفة، بسبب وجوده بينهم، مصداقا لقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وواضح أن عدم نزول العذاب رحمة لجميع الكائنات والموجودات.
بل إنه لم يثبت أن دعا على أعدائه حتى في اشتداد الشدائد، ففي غزوة أحد، التي أصيب فيها النبي ، واستشهد عدد من كبار الصحابة في مقدمتهم حمزة بن عبد المطلب، قيل له: يا رسول الله، ادع على المشركين، قال: «إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة».
وتسأله أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قائلة: “يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟” فيقول لها : «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة»، فيحدثها عما لقي من قومه في ذلك اليوم من العنت، حتى جاءه ملك الجبال، فقال له: “يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين”، فقال له رسول الله : «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله تعالى وحده لا يشرك به شيئًا».
وبعد غزوة حنين وما كان لقبيلة ثقيف من تجميع الجموع فيها لمحاربة الرسول ، ولجوء ثقيف إلى الطائف متحصنة بحصونها، ثم ما كان من محاصرة الرسول لهم هناك، ثم عدوله عن ذلك تجنبا لإراقة الدماء، وفي طريق العودة “قالوا له: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْرَقَتْنَا نِبَالُ ثَقِيفٍ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، فقَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا، وَأْتِ بِهِم». وكذلك فعل مع دوس، حينما قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا. فَقِيلَ هَلَكَتْ دَوْسٌ. فقَالَ رسول الله : «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ».
وبعد فتح مكة ودخول الرسول والمسلمين إليها، ورغم أنواع العذاب والتنكيل التي ألحقها مشركو مكة بالرسول وبأصحابه، ينادي أهل مكة، وهم مهزومون منكسرون، ينتظرون حكمه فيهم، فيخاطبهم قائلا: «ما تظنون أني فاعل بكم؟»، فيردون متفائلين: “خيرًا أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ”، فقال : «أقول كما قال أخي يوسف؛ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ، اذهبوا فأنتم الطلقاء».
هو رسول الرحمة ، جاء بدين الرحمة، من رب رحمن رحيم، فمتى تدرك البشرية هذه القيم المثلى، ومتى يعود المسلمون إلى الاقتباس من أنوار السيرة العطرة، حتى تستظل مجتمعاتنا ببعض فضائلها وقيمها؟ !.
أ.د. عبد الرحيم الرحموني