لماذا تباد “حلب الشام”؟ وكيف تباد “حلب الشام”. وهل الوقت الآن للعتاب، وتحميل التبعات لجهة من الجهات؟ بعض المتفاعلين لم يستطع أن ينأى بجانبه عن هول المأساة، فوجد متنفسا في إلقاء اللوم على جهة دون أخرى، أو على الجهتين معا: الضحية والقاتل. ومنهم من أوتي من لحن القول وزخرف اللفظ وأسعفته قريحة الكتابة، فألقى باللائمة في المأساة على دول الخليج وإيران و”المرتزقة” وأنظمة التخاذل العربي. ومنهم من علّق البلاء على تصادم المصالح بين الدول الكبرى. ومنهم من شكك حتى في الموقف العاطفي الذي يبديه بعض العاجزين -أمثالَنا- أو المناصرين أو المبررين للعجز، وكأن فظاعة مأساة “حلب” وأهلها لم تكن سوى الشماعة التي فجرت المسكوت عنه، أو المُتَسَتَّر عليه، وكان مأساة “حلب” وأهلها لم تغْدُ سوى الزناد الذي ظل ينتظر تفاعل العناصر لتشتعل النار ويهيج اللهيب.
مأساة الإبادة لقوم من أمتنا لا تحتاج كل هذا الصراخ والعويل، ولا تحتاج كل هذا التشنج في إبداء المواقف الواضحة أو المتسترة أو المخادعة، بعض المتفاعلين لم يستطع التخلص من خندق الانبهار بقدرات تلك الدولة أو الأخرى، فغدا يجد متنفسا للهروب من الصدع بما يستوجبه الشرع والمنطق والأخلاق، بل والإنسانية. مأساة حلب بقدر ما تحزّ في النفس والفؤاد، لكونها تعمّق الجرح الغائر الذي أبى أن يندمل تواليا منذ آلاف السنين، ولكنه اليوم يطغى بهوله، ويتمرد بفعله، لعل القوم يَعون ويُفيقون. أي أزمة من أزمات الوقت الحاضر بهذا الحجم؟ أي فظاعة لهذا الجرم الذي تأباه النفوس السوية والفطرات النقية؟ أي درَكٍ آلت إليه أمة الإسلام؟ “حلب” حلقة من حلقات المآسي الشاهدة على أزمة الفرد قبل أن تكون أزمة جماعة ومجتمع وأمة. إنها أزمة الإنسان المسلم الذي استعبدته المصالح المقيتة التي رانت على القلوب، وغشت الأعين، وأعمت الأبصار، فلم تعد تبصر إلا المغانم القليلة وإن كثرت، ولم تعد ترى سوى المكاسب ولو كانت دراهم معدودة، فما يزهد فيها -على قلتها- الزاهدون.
مأساة اليوم بحجم الإبادة الجماعية في “حلب الشهيدة”، لا تبحث عن الأسباب والدوافع، لا تتقفّى أثر الفاعل، وإنما دافعها الأساس، وعنوانها البارز هو إنسان هذه الأمة الشاهدة على الناس الذي لم يعد له وجود، رسالي حضاري، فهذا يتاجر بالدين، وهذا يسلط الزبانية على الثابتين تارة بالتلويح وتارة بالتشويه، وأخرى بالتهديد والوعيد، وهذا منطق الحكام الظالمين، ومنطق العلماء غير العاملين المخاطبين الناس من الأبراج العاجية، ومنطق المستبدين الذين لا يقبلون برأي، ومنطق المتسلقين الهووسين بالمناصب التي كانت وسائل فأصبحت مغانم، لا يؤمنون بمبدأ، ولا يقبلون نصيحة، ولا يتورعون عن إثم، هؤلاء هم صناع أزمة الأمة اليوم، ومن أظهر مفرداتها مأساة “حلب”.
إبادةُ “حلب” إبادة للأجساد والديار، أما إبادة الأمة ففي القيم والمبادئ والمواقف والأخلاق، في المفاهيم التي تغيرت وتبدلت، في الحق الذي يُداس بالأقدام، و يُبحث للفعل عن “المؤصلات الشرعية” للإقناع بدعوى “مراعاة المصالح والمفاسد” و”فقه الواقع”، والمرتكبون للإبادة دائما هم أبناء “الدين الواحد” و”العقيدة الراسخة”، أما الأعداء فلهم حضور، لكنه فهم رقم مساعد في الإبادة التي يضطلع بها من ينتسبون إلى دين الأمة وحضارتها وهويتها؟ من الذي أصر على قتل شعب سوريا، من أمعن في تدمير البيوت وترميل النساء وتيتيم الأطفال وتهجير الناس حتى غدا أهل الشام –وهم خيرة أهل الإسلام- يلجؤون إلى بلاد أخرى. قد يقول قائل: إنه إصرار الديكتاتور على الكرسي؟ قد يقول آخر: إنه هوس إيران باكتساح المنطقة بنزعة طائفية منتنة؟ وقد يقول ثالث: إنها أمريكا وروسيا حين توافقت مصالحهما؟ لكن في النهاية “الشام تباد وحلب تباد” بأدوات تقتات من الحضارة نفسها حضارة الإسلام؟ وأي إسلام صحيح وكلٌّ يدّعي وصلا بليلى، وليلى لا تقرهم بذاك؟ المعادلة في الإبادة المادية لأهل “حلب”، وقبلها فلسطين، واليوم: العراق، واليمن وغيرها من بقاع العالم الإسلامي، عاملها واحد يختصره قول الباري : قل هو من عند أنفسكم. ومفتاح تجاوزها واحد يختصره قوله تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
فلك الله يا “حلب الشهباء” وقد غدوت حمراء بدمك القاني الطاهر.
لك الله يا “حلب الشام” بعد خذلان ذوي أهل العقيدة.
لك الله يا “حلب الأمة” بعد أن تعرّت أوجه النفاق.
لك الله يا حلب الحضارة، بعد أن فضح الله العورات وانكشفت السوءات، ولكنها محنة جديدة من محن التاريخ تتكرر، أما مراد العلي القدير: لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم، هو الخير من وجه؛ بالأثر الذي تخلفه مثل هذه المحن لعل الأمة تفيق، ولعل النصر يكون قريبا. ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا.
الرحمة لشهداء “حلب والشام”، والشفاء للجرحى والمكلومين، والعزاء للأمة في الشهداء المرابطين، والثبات لمن يعتقد أنه على ثغر من ثغور الدين حتى ولو انتقصه المشككون.
د. كمال الدين رحموني