“آن لهذا القيد أن ينكسر”، هكذا هي اللازمة التي غدت تؤثث أدمغة ووجدان شباب العالم العربي، ولأجلها سرت العدوى بشكل عشوائي في كل بقاع العالم العربي وانخرط فيها الشباب. وهي هبة ظاهرها التغيير والخروج من شرنقة المظالم وباطنها العذاب، إذ لا يسفر سقوط الظالمين إلا عن الأظلم منهم والأشرس.
وبالنظر إلى تجليات هذه اللازمة إبان القرن المنصرم يبدو الفرق شاسعا إذ أن الانتفاضات الشعبية كانت تُؤَطَّر بأدبيات ثورية تعتبر بمثابة المحاضن التي يتعلم في مدارسها وحلقاتها التلاميذ والشباب الغاضبون أبجديات الهبات الثورية وكانت الحلقات تعقد لقراءة الكتب والمنشورات الفكرية لمنظري الثورات وهم في أغلبهم فلاسفة وقامات فكرية معروفة، وكانت اللقاءات مناسبة لتداول آخر الكتب والأشعار والبيانات الثورية التي تتخلق ببلاد الغرب، حيث يستنسخ الشباب الغربي تجارب الثوريين خاصة منهم ثوار أمريكا اللاتينية، وطبعا كان الشباب العربي بدوره يعب من هذه الرياح الثورية العابرة للقارات كتبا وأنشطة محظورة، وكان الواحد من أولئك الثوريين إذا أخذ الكلمة بمجمع خطابي ما، أجج المشاعر وألهب الحناجر ليتسلم المستمعون راية الانتفاض ويدكون جدارات الطغيان الأكثر تمنعا.. وكانت الولاءات في نضجها واضحة لا تخضع لانتهازية ظرفيه بل هي الثورة حتى النصر، كما كانوا ينظرون لها بخلفيتها الثقافية الغنية بأمهات الكتب والتجارب النضالية المعادية للاستبداد والجشع الرأسمالي طبعا بصبغتها المعادية للدين..
والشاهد عندنا أن تاريخ تلك الحركات على علاته لم يشهد انبثاق جيل هجين تغلب عليه “البلطجية” الذين يقودون ثورات اغتصاب النساء والقتل للأبرياء العزل نظير هِبَات مالية وامتيازات..
لقد كان كثير منهم رواد مدارس راسخة اليقين بعدالة قضية اصطفافهم وراء المستضعفين.
وإذا كان هذا شأن الهبات في شقها الغربي كما آمنت بها شبيبة البلدان العربية ونضحت من حراكها وتدافعها خزائن أدبية ضمت مختلف الأجناس الأدبية الثورية شعرا ورواية ومسرحا وسميت بالأدب الملتزم فإن ذهنية العدل والرفض لقيم الظلم عرفت في العالم العربي تجليات أنصع وأطهر وأصدق باعتبارها تمتح من الأصول الدينية قرآنا وسنة. وشهد العالم الإسلامي انتفاضات مباركة قادها علماء مسلمون تولوا فيها تأطير أرضية الرفض الشعبي فكانت محنهم أليمة قاسية لكنها رصعت هامة الأمة بتيجان من مؤلفات ومواقف بطولية خارقة في مواجهة الظالمين.. وعلى سبيل الذكر فإن قصة الإمام التابعي سعيد بن جبير مع والي بني أمية الحجاج تكاد تبقى بلا نظير، إذ عارض سعيد مظالم الحجاج وسطوته وكانت له -قبل تصفيته- مع الحجاج مقابلة عجيبة أصر فيها سعيد على قول الحق وعدم الخضوع للحجاج. وتروي كتب التاريخ أن الحجاج لم يلبث بعد قتله لسعيد إلا قليلا حيث ظل يتجرع آلام بثرة موجعة كان يخور معها كالثور الهائج ومصحوبة بكوابيس كان يصحو على إثرها وهو يصيح: مالي وسعيد مالي وسعيد إلى أن مات.
ثم هذا السعيد الثاني الإمام العالم سعيد بن المسيب سيد التابعين يسجن ويهان بل ويجلد مرارا ويعرض على الملأ في ثياب مهينة ويمنع من الاتصال بالناس وتعليمهم لا لشيء إلا لأنه رفض جبروت بني أمية… ولا يسع المقام على فداحة الظلم التي لحقت ثلة من العلماء كالإمام مالك والإمام أبي حنيفة، والإمام ابن حنبل وسلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمهم الله تعالى جميعا، للتفصيل فيه فقط يبقى الشاهد عندنا كما أسلفنا هو طبيعة هذه الانتفاضات النظيفة الواعية الراشدة التي حركت دائما مؤيدي الأئمة والعلماء.
وبعرض هذا التاريخ المَوَّار بالاحتجاج بين الشرق والغرب تطالعنا الموجة الجديدة لهذا الزحف الشبابي، المطالب كما بالأمس بالعدالة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومن خلال انتفاضات الميادين، حيث تتخلق في العالم العربي خاصة، حركات راديكالية ضحلة المستوى الفكري والسياسي يقودها سطحا غلمان مهووسون بقلب الأوضاع كلها حتى الصالح منها ومشغولون بتنزيل خرائط تشتيت بلدانهم دون وعي منهم باشتغالهم لفائدة أجندات معادية للأمة الإسلامية.. والمخيف في البعض من هذه التحركات الشبابية هو استباحتها لمقدسات الأمة وقيمها الأخلاقية العريقة ووضعها لصفحات ومواقع تمس فيها أعراض وتلفق فيها تهم وتحبك سيناريوهات وتنشر تسجيلات تورط الكل وتخون الكل.
ويظل السؤال الحائر مرابطا: أما آن لهذا التيه الشبابي أن يجد له مرساه الفطرية الإصلاحية بين علماء وشيوخ ومربي الأمة من الصادقين؟؟
هذا الأسبوع شدتني مجموعة غنائية أمريكية مسلمة لشباب ينشدون ما يسمى بأغنية الراب الدينية حيث زاوجوا بذكاء بين الأغنية الشبابية الجديدة والكلمات الملتزمة بقضايا المسلمين كالحجاب والحرية والإرهاب ووضعية المسلمين إزاء واقع الكراهية والإسلاموفوبيا المحاصرة لمسلمي الغرب كان عنوان إحدى أغنياتهم (أنا لا أخشى أن أكون لوحدي إذا كان الله معي)، وهو العنوان الذي يجب أن يصنع الفرق بين ثورات هوجاء وهبات إصلاحية ربانية راشدة.
هذه الفرقة التي تدعى “نتيف دين” ومبادرات فنية وثقافية موازية من شأنها جذب الشباب إلى دائرة الإسلام وسحب المبادرة من المراهنين على دك حصون البناء الإسلامي وعلى رأسها المرأة والشباب، فهل نحن منتبهون؟؟.
ذة. فوزية حجبـي