يتصل البحث في السياسة الشرعية اتصالا وثيقا بالعلوم الشرعية عموما، خصوصا العلوم المتصلة بالمقاصد، من قبيل علم التفسير وعلم الحديث وعلم الفقه، كما يتصل أكثر بفقه الواقع وفقه التنزيل، وبهذا اكتسى هذا النوع من البحث أهميته، وتجلت قيمته.
وإن الناظر إلى منظومة التشريع الإسلامي يلحظ جليا انقسامها إلى ثلاثة أفقاه، فقه الدين، وفقه الواقع، وفقه التنزيل، فإذا كان التمكن من أحكام الدين وحِكمه والتمرن على أصوله في الاستدلال هو مجال الفقه الإسلامي، فإن مجال السياسة الشرعية أوسع من هذا حيث تبحث في القضايا الرابطة للوقائع بالواقع، محاولة سبر كل المكونات، من أجل تنزيل مقاصدي مبني على تحقيق مناطات الأحكام.
وفي هذه العملية كلها لا بد من مراعاة مقاصد التشريع عن طريق اعتبار المآلات ومراعاة المصالح والمفاسد، ليتجلى بذلك التكامل الذي تجسمه منظومة التشريع الإسلامي، في الجمع بين مجموعة من العلوم في دفعة واحدة عند الاستنباط ..
وتعتبر مقاصد الشريعة الأصل الأصيل الذي لا يمكن أن يتخلى عنه الفقيه عند النظر في شؤون الرعية وأحوال الناس، فلا تكون السياسة سياسة إلا عندما تنطلق من هذا الوعي محاولة جلب المصالح العامة، ودرء المفاسد، دون استئناس بالهوى أو العاطفة.
ومن خلال هذا المقام سنحاول إبراز العلاقة الوطيدة بين مقاصد الشريعة والسياسة الشرعية وذلك من خلال محورين اثنين يتلخصان في الجملة التالية: السياسة الشرعية ومقاصد الشريعة مقاصد وقواعد.
مقاصد السياسة الشرعية وعلاقتها بمقاصد الشريعة:
من المعلوم أن العلوم الإسلامية متكاملة وتتداخل مباحثها فيما بينها، ويعتبر علم مقاصد الشريعة جوهر العلوم الإسلامية، خصوصا إذا علمنا أن العلوم إما مقاصد وإما وسائل، وعلوم الوسائل ليست مقصودة لذاتها إنما جيء بها من أجل الوصول إلى مقاصد التشريع والحكمة منه، وبهذا يمكن أن نقول: إن العلوم الإسلامية كلها ترتبط بعلم مقاصد الشريعة ارتباطا وثيقا، لكنها تتفاوت في هذا الارتباط بحسب اختلاف مناهجها وقواعدها.
ويمكن أن نعتبر السياسة الشرعية من ألصق العلوم بعلم مقاصد الشريعة، خصوصا وأن علم السياسة الشرعية جاء ليدير شؤون الرعية بما يحقق مصالحها ويدفع عنها المفاسد، فهو علم محدث في الملة اقتضاه واقع الاجتماع البشري الذي تؤطره العلاقة بين الراعي والرعية.
فإذا كان المقصد من السياسة الشرعية وتنظيم شؤون الراعي والرعية كما يقول الإمام الجويني: “والغرض الأعظم من الإمامة جمع شتات الرأي، واستتباع جل أصناف الخلق على تفاوت إرادتهم، واختلاف أخلاقهم ومآربهم وحالاتهم، فإن معظم الخبال والاختلال يتطرق إلى الأحوال من اضطراب الآراء، فإذا لم يكن الناس مجمعين على رأي واحد، لم ينتظم تدبير، ولم يستتب من إيالة الملك قليل ولا كثير، ولاصطلمت الحوزة، واستؤصلت البيضة”(1) فإن هذا هو عين مراعاة المقاصد من حيث جلب المصالح ودرء المفاسد للرعية في علاقتها بالراعي لأمرها وهو الإمام.
ويؤكد هذا المعنى ابن تيمية مبينا مقصود الولايات في قوله: “جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا”(2)، ويقول في نفس السياق: “وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”(3).
من خلال هذا العرض السريع لأقوال الأئمة في بيان ارتباط السياسة الشرعية بمقاصد الشريعة من حيث البعد المقاصدي، يمكن أن نقول: إن السياسة الشرعية متحدة المقصد مع مقاصد الشريعة، فالغاية من السياسة الشرعية بنظمها وقواعدها ونوازلها هو تحقيق مصالح الناس الدينية والدنيوية، وهو عين ما يلاحظه علم مقاصد الشريعة، وإنما اظ لخلاف بين العلمين في الوسائل وتنوعها في سبيل الوصول إلى المصالح، فعلم السياسة الشرعية وجه آخر من أوجه علم مقاصد الشريعة، هو وجه مرتبط أساسا بالواقع ونوازله التنظيمية والسياسية التي تؤطرها العلاقة بين الراعي والرعية، وهذه الصفة اختصت السياسة الشرعية بالبحث فيها، ليبقى علم مقاصد الشريعة علما أعم من السياسة الشرعية لشموله للأحكام الفقهية وتأصيله لمبدأ المصالح و المفاسد في نطاقها، وللأحكام العقدية وغيرها من الأحكام، ولكونه علما تدور في فلكه جميع العلوم الإسلامية.
ذ. صهيب مصباح
—————-
1 – غياث الأمم في التياث الظلم للجويني ص18
2 – الحسبة لابن تيمية ص6
3 – الحسبة ص11
يتبع