ما أحوجنا إلى أعمال صالحة يقبلها الله تعالى منا فيستلمها بيمينه سبحانه، ويربيها لنا كما يربي أحدنا فلّوه أو فصيله، فيجدها أحدنا في ميزان حسناته كجبل أحد، ويحظى بها من ربه بالقبول، ويصطف بها في زمرة المخلصين. وتكون له في الدنيا معينات على الثبات والقرب، ودوام للمعية وللحفظ، وفي الآخرة تمتد لها ظلال تقيه حر شمس الحشر في يوم لا ظل فيه إلا ظله سبحانه.
لذلك على “من عرف شرف الوجود أن يحصل أفضل الموجود، فهذا العمر موسم، والتجارات تختلف، والعامة تقول: عليكم بما خف حمله وكثر ثمنه، فينبغي للمستيقظ أن لا يطلب إلا الأنفس”(1).
والأنفس ما قبله المولى فثقلت به الموازين يوم القيامة، وقد دلنا النبي على ماهيته في أحاديث كثيرة منها حديث الزبير بن العوام وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث قال صلى الله عليه وسلم: “من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل”(2).
ومعنى قوله: “خبء من عمل صالح” أي: من أعمال السر الخفية الخالصة لله ، الخالية من الرياء، فالله سبحانه لا يقبل من العمل إلا أخلصه وأقومه، ولا يعين على الإخلاص إلا الحرص على كتم العمل، “ونسيان الخلق بدوام رؤية الخالق”، فذلك دليل صدق المؤمن، وعلامة محبته لمولاه.
وما أكثر من يعمل العمل ويحب أن يظهره للناس لطغيان حظ نفسه عليه، ولحب مدحهم وثنائهم عليه وكان سفيان الثوري يقول: “لا أعتد بما ظهر من عملي… فاعلم أن ترك النظر إلى الخلق، ومحو الجاه من قلوبهم بالتعامل وإخلاص القصد، وستر الحال هو الذي رفع من رفع”(3).
ولا يحرص على فعل الخبيئة من العمل الصالح إلا من عمل على تصفية الفعل من ملاحظة المخلوقين وجرده من حظ النفس في حب الظهور والثناء، وصرفه متقربا به لله وحده، يرجو به ثوابه ويطمع في رضاه، ويخشى عقابه. فهو بذلك من العباد المخلصين الذين لا سلطان للشيطان عليهم، قال تعالى: فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين(ص: 82-83).
ومن أعظم خبيئة صلاح السريرة، فلا “تظن أن العلانية هي أنجح من السريرة، فإن مثل العلانية مع السريرة، كمثل ورق الشجر مع عرقها، العلانية ورقها، والسريرة عرقها، فإن نخر العرق هلكت الشجرة كلها، ورقها وعودها، وإن صلحت صلحت الشجرة كلها ثمرها وورقها، فلا يزال ما ظهر من الشجرة بخير ما كان عرقها مستخفيا، لا يرى منه شيء، كذلك الدين لايزال صالحا ما كان له سريرة صالحة”(4)، ولا ينفع مع فساد السريرة صلاح الظاهر، فالحق سبحانه يتوعد في محكم التنزيل بكشف السرائر في قوله: يوم تبلى السرائر(الطارق: 9).
لذلك حث رسول الله في حديث أبي هريرة على تطهير السر وذلك بالتنبيه على سلامة القلوب التي هي موضع نظر الباري حيث قال: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم وصوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم»(5).
وفي قوله «من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل” دعوة إلى العبد أن يعود نفسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها كما تغلق الأبواب دون الفواحش، فإنه لا دواء في الرياء كمثل إخفاء الأعمال، وذلك يشق في بداية المجاهدة فإن صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه ثقله، وأمده الله بالعون، فعلى العبد المجاهدة، ومن الله التوفيق»(6).
وللخبيئة من العمل الصالح جزاء تكشفه آيات وأحاديث كثيرة:
ففي الصلاة، قول النبي : «تطوع الرجل في بيته يزيد على تطوعه عند الناس، كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته وحده»(7). وقوله أيضا: «صلاة الرجل تطوعا حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس خمسا وعشرين»(8).
وفي الدعاء: يقول تعالى: ادعوا ربكم تضرعا وخفية (الأعراف: 55)، فدعوة في السر أفضل من سبعين في العلانية، وإذا عمل العبد في العلانية عملا حسنا وعمل في السر مثله قال الله لملائكته: “هذا عبدي حقا”.
وفي الصدقة: قوله : «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله… وذكر منهم.. ورجلا تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»(9).
وقوله: «صدقة السر تطفئ غضب الرب»(10).
وفي الذكر: ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه” وفي الحديث القدسي: “عبدي… إذا ذكرتني خاليا ذكرتك خاليا، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم وأكبر”(11).
فلما علم الصالحون فضل الخبيئة من العمل الصالح حرصوا على كسبها بقلوبهم وأعمالهم وحجبها عن حظوظ النفس وملاحظة الخلق. فهذا محمد بن واسع يقول: لقد أدركت رجالا كان الرجل يكون مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالا يقوم أحدهم فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي بجانبه.
فجعلنا الله ممن اهتدى بإرشاد النبي الكريم، وكانت له خبيئة من عمل صالح تنفعه يوم تبلى السرائر.
دة. رجاء عبيد
————–
1 – صيد الخاطر. ابن الجوزي.ص:228
2 – الصحيح الجامع رقم 6018
3 – صيد الخاطر. ابن الجوزي.ص:197
4 – نفسه286
5 – أخرجه مسلم، حديث 33
6 – مختصر منهاج القاصدين، ابن قدامة ص:242
7 – صحيح الجامع رواه ابن شيبة عن رجل رقم2953
8 – صحيح الجامع، رواه ابن عدي عن صهيب رقم3821
9 – فتح الباري،.، ج2 رواه أبو هريرة رقم6
10 – صحيح الجامع، رقم3759
11 – صحيح الجامع، رقم4324