يوجهنا النبي إلى التزود من يومنا لغدنا القريب والبعيد، محددا أوقاتا مباركة تعين على ذلك، في وصية جامعة تحدد معالم طريق السير إلى الله بمنهج وسط لا إفراط فيه ولا تفريط؛ منهج يغني عن غيره ولا يغني عنه غيره، وذلك في قوله : «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»، مؤكدا يسر الدين، وناهيا عن تكلف التشدد، وداعيا إلى الاستعانة بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، وصارفا انتباهنا إلى عظمة هذه الأوقات لاغتنامها والاجتهاد فيها لتكون عونا للمؤمن على تحمل أعباء الحياة، وسندا له للارتقاء إلى مراقي الفضل والقرب.
فالسير إلى الله المقرون بالاستعانة بهذه الأوقات الثلاثة (الغدوة + الروحة + الدلجة) ملاذ أصحاب العزائم، ومطيتهم للثبات على نهجهم القويم الذي ارتضوه لأنفسهم. والقصد من السير فيها هو قطع الطريق في السفر إلى الآخرة بسير القلوب لا الأبدان، لأن هذه الأخيرة تبع لا أصل، وذلك بغية الوصول إلى الله تعالى بنوعين من الوصول: الأول في الدنيا والثاني في الآخرة ف” أما الوصول الدنيوي فالمراد به: أن القلوب تصل إلى معرفته، فإذا عرفته أحبته، وأنست به فوجدته قريبا ولدعائها مجيبا… وأما الوصول الأخروي فالدخول إلى الجنة التي هي دار كرامة الله لأوليائه”
وحديثه عن الاستعانة بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة في السير إلى الله تتضمنه آيات عديدة في القرآن الكريم كقوله تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا(الإنسان: 25 – 26).
وفي قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوب وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإَدْبَارَ السُّجُودِ(طه: 130).
وتفصّله أحاديث كثيرة تذكر فضل هذه الأوقات وبركتها؛ وسنجتزئ بعضها للحديث عن الغدوة والروحة ثم الدلجة وفق المنهج التراتبي الذي سنه النبي في قوله: «واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة»
فالغدوة هي البكرة وهي: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقد دعا النبي فيها بالبركة لأمته في قوله: «اللهم بارك لأمتي في بكورها».
والروحة آخر النهار أو العشي، قال تعالى: وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْاِبْكَار(آل عمران: 41) وقد أمرنا باغتنام الغدوة والروحة بالذكر الكثير والتسبيح.
أما قوله : «وشيء من الدلجة»
فالدلجة: أول الليل وقيل آخره، والمراد به أن يحرص المؤمن على اغتنام شيء من الدلجة سواء في أول الليل أو في آخره، وبين الأول والآخر تفاضل في الأجر.
وقد بين النبي في الحديث الذي رواه الترمذي بإسنادٍ حسن أن الذي يستعين بالدلجة وازعه الخوف الذي يبلغه منازل الجنة في قوله : «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» (رواه الترمذي والحاكم والبيهقي).
وأدلج أي سار في الدلج بهمة ونشاط، وقوله خاف: أي خاف سوء العاقبة.
فاستعان على بلوغ الجنة بالدلج، فعقد العزم ولم يتوانَ ولم يتكاسلْ، واجتهد بعمل الطاعات في هذه الأوقات، فبلغ المنزل والمستقر وهو الجنة، وهي سلعة غالية.
وإذا أجلنا أبصارنا في قصص من سبق من الصالحين فإننا نجد أن نجاحهم في الثبات على الطاعات والقربات مرده إلى امتثال أمر الرسول ، وعملهم بوصيته في اغتنام هذه الأوقات المباركة. والحرص على تقوية الذات فيها بجمع الزاد. فحفظ الله تعالى فيها بالطاعة والعبادة تتجلى نتائجه في غيرها من الأوقات بأن يحفظنا سبحانه من كل الآفات والزلات؛ كما قال : «احفظ الله يحفظك» لأن المعية قائمة ما حفظت شروطها، والحفظ مستمر ما امتد العمل المصان بالإخلاص.
فهذا الإمام ابن القيم يحكي قصة شيخة ابن تيمية قائلا: “صليت مرة الفجر خلف شيخ الإسلام ابن تيمية فظل يذكر الله حتى انتصف النهار ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي لو لم أتغد غدوتي سقطت قوتي”، منبها رحمه الله إلى ضرورة العمل بوصية الاستعانة بالغدوة القاذفة في الروع بشائر الوعد النبوي، مبينا أنها إن أهملت سقطت قوة الإنسان غلبه الوهن.
وأما عن الدلجة فقد روي أن الأشتر دخل على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بعد هدأة الليل وهو قائم يصلي فقال: يا أمير المؤمنين صوم بالنهار وسهر بالليل وتعب فيما بين ذلك؟ فلما فرغ من صلاته قال: سفر الآخرة طويل يحتاج إلى قطعه بسير الليل وهو الادلاج”. وهو تنبيه منه كرم الله وجهه إلى ضرورة الإدلاج لطي مسافة السفر الطويل.
وهو تمثل عملي لوصايا النبي . فما حظُّنا منه في زمننا هذا؟ هل نستعين بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة؟ فحالنا يغني عن مقالنا. ولكني أقول لنفسي وإياكم: إن عجزنا عن مشاركة المغتنمين في السير معهم في ذلك المضمار فلا أقل من مشاركة المذنبين في صدق الاعتذار ولزوم التوبة والاستغفار للعزيز الغفار الذي وعد عباده فقال: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا.
دة. رجاء عبيد