تناول الباحث الكريم في الحلقة السابقة معلمين من معالم المنهج الاجتهادي عند العلامة الدكتور محمد التاويل رحمه الله تعالى، وهما: المرجعية المعيارية لنصوص الشرع، والشمولية في المقارنة الفقهية.
ويواصل في هذه الحلقة الثانية حديثه عن هذه المعالم من حيث الاستدلالُ مبينا أنه يقوم على أصول وقواعد علمية غاية في الدقة والإجرائية.
مما يميز العلامة محمد التاويل رحمه الله تعالى في اجتهاداته في نوازل العصر ومستجداته إعماله لمنهج إستدلالي قائم على توظيف مجموعة من الأصول والقواعد والضوابط توظيفا علميا دقيقا يدل على حسن الفهم وسعة الاطلاع وفقه عميق في التنزيل.
ومن جملة معالم منهج الاستدلال نذكر مايلي:
• استدلاله بفعل النبي وتقريراته فيما لم يدل دليل على تخصيصه؛
ذلك أن أفعال النبي –فيما ليس من قبيل الأمور الجبلية– تشريع وجب اتباعه، فالله تعالى يقول: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وهذا الإيتاء قد يكون قولا وحين ذلك وجب امتثاله قطعا، وقد يكون فعلا، وهنا ينظر، فإن كان فعله تشريعا -وهذا الغالب- فإننا مأمورون باتباعه؛ والشيخ رحمه الله أكثر من الاستدلال بفعل النبي وتقريراته من ذلك:
احتجاجه بعدم مشاركة الزوجة لمال زوجها فيما لم تشاركه في إنتاجه بوجه من الوجوه بكونه طلق حفصة ولم يقاسمها ممتلكاته بعد الزواج بها(1)، ومن حيث الاستدلال بتقرير النبي ، من ذلك احتجاجه بما ثبت بالتواتر المعنوي من طلاق الرجال لزوجاتهم في حياة الرسول ، وأنه لم تقاسم واحدة منهن زوجها أمواله التي ملكها بعد الزواج أو قبله(2).
• استدلاله بالقواعد واعتبارها دليلا يحتج به والترجيح بها في محل الخلاف
سواء القواعد المقاصدية “المحافظة على الأديان مقدمة على المحافظة على الأبدان”(3)، أو القواعد الأصولية “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”(4) أو القواعد الفقهية “الغنم بالغرم”(5) وذلك صنيعه في كثير من المسائل الفقهية، سواء من حيث التأصيل أو من حيث الرد على المخالف وإبطال دليله.
• استدلاله بالتعليل الفقهي في كثير من الأحكام
والتعليل هو تقرير ثبوت المؤثر لإثبات الأثر، وقيل: التعليل هو إظهار علية الشيء، سواء كانت تامة أو ناقصة(6). وكل تعقل للنص عند الفقهاء تعليل، أي النص الظني الدلالة ويشمل التعليل عندهم التعقل والربط بين العلة ومعلولها وإلحاق المعلل بالمعل وإخبار الفقيه عن العلة، فالتعليل والربط والإلحاق والإخبار كل ذلك يسمى تعليلا عند الفقهاء، كما يطلق التعليل عندهم على ما ثبت الحكم لأجله، فكل ما ثبت الحكم لأجله فهو علة؛ وبهذا تكون العلة عند الفقهاء أوسع مجالا من العلة عند الأصوليين.
والشيخ رحمه الله كثيرا ما يصدر حكمه بشأن النازلة الفقهية ثم يستدل أو يعلل، فينطلق من الحكم ليبين أدلته، وقد يخالف هذا المنهج فيعرض النازلة ويذكر ما قاله الفقهاء بشأنها وأدلتهم، ثم يشرع في إبطال أدلة اتجاه معين كلً دليل على حدة، بأسلوب علمي قوي، وخلال صنيعه هذا يؤيد الاتجاه الذي رآه صائبا ويعضده بأدلة أخرى، وقد يستبعد الاتجاهين معا ويبطل أدلتهما ويأتي بحكم وفقه جديد لم يُسبق إليه، ونشير إلى نماذج من هذا:
• قال رحمه الله: “وعندي أن اعتبار موت الدماغ موتا شرعيا والاكتفاء به في ترتيب أحكام الوفاة كلها عليه بما في ذلك نزع أعضائه قبل توقف قلبه وتنفسه غير صحيح ومخالف للقواعد الأصولية والفقهية من وجوه…”(7).
ثم شرع رحمه الله يستدل على ما ذهب إليه بأدلة متعددة، فنراه قد حكم في النازلة ثم أتبع حكمه هذا بأدلة مختلفة.
• خلال إيراده الأدلة على عدم اعتبار الزوجة التي لا تشارك في إنتاج المال بوجه من الوجوه شريكة للزوج في الأموال المستفادة بعد الزواج، قال: “6 – الحديث المتفق عليه “إذا أطعمت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا”(8) … قال: وهو دليل على اختصاص الزوج بماله…”(9)، فحكم بكون المال المكتسب خلال الزوجية يتفرد به الزوج، وعلل ذلك بعلل متعددة، إذ قال: “لأنه أضافه إليه وحده –من بيت زوجها– والإضافة تفيد الاختصاص.
ولأنه جعل أجره بما كسب –ولزوجها أجره بما كسب- والكسب معناه الملك وقد أسنده له وحده.
ولأنه علل أجرها هي بالإنفاق فدل على أنه لا ملك لها فيه وإنما تستحق الأجر كما يستحقه الخازن؛ لأنها تسببت في الإنفاق(10).
وفي زكاة الأسهم نجده عرض ثلاثة آراء فقهيه في كيفية تزكية الأسهم التي هي عبارة عن أوراق مالية قابلة للتداول بالبيع والشراء تصدرها بعض الشركات؛ فعرض الرأي الأول القائل بأنها تزكى زكاة عروض التجارة مطلقا، بقطع النظر عن نشاط الشركة التي تصدرها ومجالها الذي توظف فيه رأس مالها، وعرض لرأي آخر يقول: إن زكاة الأسهم تعتبر فيها الأسهم السوقية للأسهم كعروض التجارة إلا أنهم يفرقون بين أنواع الشركات، فأوجبواْ الزكاة في أسهم الشركة التجارية المحضة، والشركة المزدوجة تجارية صناعية؛ أما الرأي الثالث فيرى أصحابه الجمع بين زكاة الأسهم وزكاة أموال الشركة وأن زكاة أحدهما لا تغني عن زكاة الآخر. ثم رد رحمه الله كل هذه الآراء رأيا رأيا، وعارضها بأدلة كثيرة، وفصل في ذلك تفصيلا، ليوضح بعد ذلك أن الواجب عدم الالتفات إلى الأسهم لأنها مجرد وثائق، وفرض الزكاة في أموال الشركة على أساس حصة كل مساهم وما ينوبه في تلك الأموال، فما كان نقدا زكاه نقدا وما كان عروضا زكاه زكاة عروض التجارة، وما كان من الماشية والحرث زكاه زكاة الماشية والحرث بشروطها، وقسم الشركات إلى أقسام: الشركات التجارية المحضة، الشركات الصناعية المحضة والخدماتية، والشركات المزدوجة: تجارية صناعية، الشركة الفلاحية أو التعاونية الفلاحية؛ وبين كيفية زكاة كل نوع من هذه الأنواع، معللا سبب رده الآراء السابقة ومعللا أيضا الاتجاه الذي سلكه، مبرزا شخصيته في كل المناقشات والقضايا العلمية المشكلة بروزا واضحا، تنم عن اطلاع واسع وإلمام بخفايا الفقه وخاصة الفقه المالكي(11).
ذ. أناس الكبيري
—————-
1 – إشكالية الأموال المكتسبة خلال الزوجية ص 7.
2 – المصدر نفسه ص 7.
3 – زراعة الأعضاء من خلال المنظور الشرعي ص 23.
4 – المصدر السابق ص 23.
5 – إشكالية الأموال المكتسبة خلال الزوجية ص 96.
6 – التعريفات لعلي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني (المتوفى: 816هـ) ص 61؛ ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر :دار الكتب العلمية بيروت –لبنان الطبعة الأولى 1403هـ -1983م.
7 – زراعة الأعضاء من خلال المنظور الشرعي ص 40.
8 – مسند الإمام أحمد بن حنبل : أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ) ج 43 ص 389 حديث رقم 26370 تحقيق: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون إشراف: عبد الله بن عبد المحسن التركي / مؤسسة الرسالة / الطبعة الأولى، 1421 هـ – 2001 م.
9 – إشكاية الأموال المكتسبة خلال الزوجية ص 5.
10 – المصدر السابق نفسه.
11 – زكاة العين ومستجداتها الصفحات من 72إلى 91.