قبل أيام شهد المغرب حملات تواصل استثنائية بين أطياف الشعب وممثليه في المؤسسة البرلمانية، في علاقات تبدو سوريالية إذ طبعتها تلك القيم التضامنية التي ظلت لقرون تواشج بين المغاربة وتصنع فرادة الشعب المغربي..
قيم الإيثار والرحمة والتعاون، وقد كان لافتا منظر المنتخبين وهم يدقون أبواب بيوت البؤساء ليهشوا في وجوههم ويشربوا شايهم وينصتوا بعيون دافقة بالتفهم لثرثرتهم وسيرة تطلعاتهم الدفينة، وكان لافتا أكثر رؤية أولئك المنتخبين وهم بالأسواق بين المواطنين في حرفهم المغمورة (حتى بائع الإسفنج وجد من يهتم بتقليب إسفنجاته الساخنة المقرمشة)، فهل كان يجب أن نخوض استحقاقات انتخابية لينهار جدار العزل بين المواطنين ومنتخبيهم، ونعيش أجواء المحبة والرحمة كما جاء بها الإسلام، أليس الانتخاب أمانة عظمى تضع المنتخب أمام حساب أخروي عسير. ألم يقل سبحانه: وقفوهم إنهم مسؤولون وقال رسول الله : «ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة». وقوله : «من غش فليس منا»..، فكيف يتم حبك سيناريوهات التواصل الإسلامي الأرقى مع المواطنين لأيام المشمش السبعة وأسبوع العسل هذا، وهو عمر الحملة الانتخابية. والراعي كما الرعية مأمورون بتنزيل الأخلاق الإسلامية كل دقيقة بل وثانية من عمرهم على ظهر البسيطة؟ وإذا كان هذا حال المرشحين فإن حال منتخبيهم لا يقل درامية إذ تنتشر بين المواطنين ظواهر جشع غريبة شعارها الأثير ليس في القنافذ أملس فتجد أسرا تقسم أفرادها على أصحاب الرموز الانتخابية الأوفر حظا للصعود، وتبدأ عملية المساومة على الأصوات لترتيب حملات انتخابية مغشوشة الوسائل والمقاصد. وفي خضم ترجيح كفة رمز الحزب الأكثر سخاء تلهج الأصوات بشعارات التزكية في غفلة تامة عن النهي الصارم لرسول الله عن شهادة الزور: «..ألا وقول الزور.. وشهادة الزور»، وموازاة مع هذه الشعارات الزائفة، تعلو شعارات السب والقدح الأكثر عدوانية للمعارضين (موت يا لعدو فلان عندو شعــبو)..
وغير بعيد عن هذه الأجواء التي تؤرخ لقيم مادية متوحشة فإن ما يقع بالمراكز الانتخابية أثناء عملية الاقتراع يشي باندحار أخلاقي من نوع آخر، إذ تم القبض على مواطنين متلبسين باستعمال التكنولوجيا المتطورة لتصوير عملية اختيارهم لرمز أولياء نعمتهم كوثيقة تصديق على وفائهم لصفقة بيع الصوت المبرمة غافلين عن التصوير الرباني الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. ناهيك عن الجزء الآخر من المأساة المتمثل في أمية العديد من المواطنين الذين لا يستطيعون قراءة المعلومات التي تخولهم الإدلاء الصحيح بأصواتهم..
إن كل هذا التسيب القيمي حتى لا نقول التنكر للمنظومة الإسلامية المبنية على الصدق والإخلاص والتقوى، يخرج دفعات من المواطنين النفعيين الوصوليين الذين لا يؤمنون إلا بمذهب المصلحة الذاتية، وليذهب الوطن إلى الجحيم..
وفي السياق يروي مواطنون حكاية مواطن كان مرشحا، وقد ظل لمدة شهر يعلم زوجته وأهلها كيف تختار الرمز الذي يشير لحزبه؛ لكنها يوم الاقتراع نسيت ما تعلمته في الدورة التدريبية إياها واختارت رمز منافس زوجها ليسقط هذا الأخير في الانتخابات بفارق أصوات زوجته وعائلتها فما كان منه إلا أن طلقها..
وإذا كان الحال بهذا التردي على المستوى الديني، وفي هذه الأجواء الضبابية التي تبعث على القلق فإن تيارات دخيلة لثلة محدودة من المثقفين المغاربة ما انفكت تستنبت خصوصيات الاضطرابات التي يشهدها العالم العربي لتزرعها في التربة المغربية عنوة باسم الحرب على الأخونة والتطرف الديني.. وهكذا قرأنا لمن يدعو المغاربة إلى الاحتياط من تيارات قد تسقط المغاربة في الوضع السوري أو العراقي.. ومنهم من حذر من صعود دولة الفقهاء، ومنهم من وصم المغاربة بالبلادة وتنزيل فلسفة “حفظ وعرض” إن صوتوا على التيار المحافظ.. ناهيك عن افتعال الفضائح أو تضخيمها لضرب مؤسسة العلماء والمتدينين بصفة عامة، والحال أن انحسار الأخلاقيات الدينية في المجتمع المغربي غدا لافتا حتى لا نقول مخيفا، وحادثة أمي فاطمة المرأة التسعينية بمدينة آسفي مريعة بكل المقاييس إذ اغتصبها منحرف بطريقة وحشية منكرة وترك دماء جرمه على حيطان غرفتها.
[لا حيا في دين كرفسني] كانت تقول لمستجوبيها وهي مشلولة لا تستطيع الحركة بندوب وكسور في أنحاء جسدها، وتنذر حالتها بموت وشيك.
فعن أية أخونة يتحدثون وظواهر خيانة الأمانة الدينية غدت هي الأصل عند خونة حقيقيين، وأمسى الدين غريبا حتى وإن استحال عند البعض إلى طقوس مجردة من النبض الديني ومواجيد التقوى التي كانت سمة لمجتمعاتنا القديمة.. ونتساءل ألم يساهم المتغربون من بعض أبنائنا في انحراف الوضع إلى هذا التوحش واستشراء قيم (دهن ليه حلقو ينسى اللي خلقو)؟؟
ويطول الكلام في مواجعنا ولا أجد في النهاية إلا كلمات بليغة للدكتورالمهدي المنجرة لتوصيف هذا التيه الأخلاقي الذي أسفرت الإنتخابات عن بعض اعتلالاته. يقول د المنجرة: “الإصلاح شبيه بعملية جراحية، كلما تأخرنا في إجرائها إلا وقلت فرص نجاحها”.
ذة. فوزية حجبـي