أولا: تقديم للسورة
سورة الحجرات مدنية بكاملها، وعدد آياتها ثمان عشرة آية، نزلت في السنة التاسعة من الهجرة بعد أن أتم الله على رسوله فتح مكة في السنة الثامنة، وبعد أن بدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجا، فبدأت ترد على المدينة وفود القبائل تبايع الرسول . وقد سمي هذا العام عام الوفود.
ثانيا: اسم السورة
اسم السورة مأخوذ من اللفظة الواردة في الآية إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون. ولعل في إطلاق لفظ الحجرات على هذه السورة ما يشير إلى أن ما تحتوي عليه من مضامين يسهم في بناء الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي بناء سليما متينا متماسكا كتماسك بناء الحجرات، ويرشد تطبيق ما تدعوا إليه من أمر أو نهي إلى النجاة من الوقوع في المعاصي والأخطاء والزلات. وموضوعها الإيمان المؤدي إلى التقوى.
ثالثا: هذه السورة
- ترشد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ورعاية الآداب مع الله سبحانه والرسول مع المؤمنين.
- تدعو إلى التثبت من الأخبار ولاسيما المهمة قبل الأخذ بها أو الصادرة من جهات غير موثوق بها.
- تضع الأسس القويمة لصيانة المجتمع الإسلامي من الانهيار والتصدع والتفكك.
- تعالج بعض الأمراض الاجتماعية الخطيرة التي تهدد كيان الأمة.
- توضح مفهوم الإيمان الحقيقي.
- وهي بصفة عامة تنظم للمسلمين علاقاتهم العامة لتكوين مجتمع رفيع كريم نظيف العلاقة مع الله خالقهم أولا، ومع رسوله المبلغ عنه ثانيا، ومع المؤمنين ثالثا. وتنتهي ببيان حقيقة الإيمان الذي هو أساس هذه العلاقات، وبالدعوة إلى الجهاد الذي هو نتيجة طبيعية للإيمان الحق الكامل.
رابعا: أسباب النزول
لم تنزل هذه السورة جملة واحدة وإن كان يفهم من سياقها أنها نزلت في فترات متقاربة. وقد ذكر المفسرون عدة أسباب لنزولها أو لنزول بعض الآيات منها، سنكتفي بإيراد بعضها جملة لنستأنس به في فهم مضامين السورة، وإلا فإن العبرة كما يقول علماء الأصول بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
1 – ذكر قتادة أن ناسا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا كذا، لو صح كذا. فَكَرهَ الله تعالى ذلك فأنزل: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم.
2 – روى البخاري عن نافع قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي حين قدم عليه ركب تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس (ليؤمر عليهم) وأشار عمر برجل آخر (قال نافع لا أحفظ اسمه). فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ما أردت إلا خلافي. قال ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيء ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون.
3 – ذكر أن الآية إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون نزلت في أعراب بني تميم الذين كانوا من جملة الوفود التي قدمت على رسول الله عام الوفود. وكانوا أعرابا جفاة. وروي أنهم قدموا وقت الظهيرة ورسول الله راقد في حجرات أزواجه يستريح. فجعلوا ينادونه: يا محمد، يا محمد أخرج إلينا. فاستيقظ وخرج وهو كاره لهذا الانزعاج.
4 – قال مجاهد وقتادة: بعث رسول الله الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليصدقهم (ليجمع الصدقات) فتلقوه بالصدقة فرجع فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك (زاد قتادة وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام) فبعث رسول الله خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل. فانطلق حتى أتاهم ليلا فبث عيونه فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى رسول الله فأخبره الخبر. فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا… قال قتادة فكان رسول الله يقول: «التثبت من الله والعجلة من الشيطان».
5 – روي عن ابن عباس أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوما فبعثاه إلى رسول الله يبغي لهما إداما وكان أسامة بن زيد على طعام رسول الله فقال: ما عندي شيء. فأخبرهما بذلك. فعند ذلك قالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، فلما راحا إلى النبي قال لهما: مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما. فقالا: ما تناولنا لحما. فقال: إنكما قد اغتبتما. فنزلت: ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن ياكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم.
6 – روى الزهري أن رسول الله أمر بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة، فقالوا لرسول الله : نزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل الله سبحانه: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير.
خامسا: المعنى الإجمالي للسورة
1 – يخاطب الله سبحانه وتعالى في مستهل هذه السورة عباده الذين آمنوا به فينهاهم عن أن يقبلوا على أمر قبل أن يعلموا قول الله فيه على لسان رسوله فيما سبيله أن يأخذوه عنه من أمور الدين والدنيا وألا يسرعوا في الأشياء قبله. وألا يقولوا قولا أو يفعلوا فعلا يخالف ما في الكتاب والسنة. ويأمرهم بتقوى الله وبأن يحذروا عقابه لأنه سميع لأقوالهم عليم بضمائرهم ونياتهم.
2 – ثم يخاطبهم مرة ثانية فينهاهم عن رفع الأصوات على رسوله وعن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه؛ بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم حتى لا تبطل أعمالهم التي كانوا ينتظرون أن يؤجروا عليها وهم لا يعلمون ولا يدرون ببطلانها. ويخبر سبحانه بأن الذين يخفضون أصواتهم عند رسول الله إذا كلموه أو كلموا أحدا بين يديه إجلالا له وتعظيما قد أخلص الله سبحانه قلوبهم للتقوى، وجعلها أهلا ومحلا للتقوى، أو أن الله قد امتحن قلوبهم واختبرها فعلم تقواها. وهؤلاء وعدهم الله سبحانه بأن يثيبهم على تعظيمهم وتوقيرهم لرسوله بأن يغفر ذنوبهم ويمحو سيئاتهم ويمنحهم أجرا عظيما. ثم يبين سبحانه سوء تصرف الذين ينادون الرسول من وراء الحجرات فذكر أن أكثرهم لا يعقلون؛ لأن نداءهم لم يكن مقرونا بحسن الأدب، لذلك كانوا فيه خارجين عن درجة من يعقل ويرشدهم الله إلى السلوك القويم الذي كان عليهم أن يعاملوا رسوله به، وهو أن يصبروا وينتظروا إلى أن يخرج من حجراته. ولو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرا لهم وأصلح في دينهم ودنياهم، وقد دعاهم الله إلى التوبة ورغبهم فيها حيث ختم هذه الآية بوصف نفسه بأنه غفور رحيم.
3 – ثم يوجه الخطاب لعباده المؤمنين للمرة الثالثة فيأمرهم بأن يتأكدوا ويثتبتوا من خبر الفاسق قبل أن يقوموا بأي عمل بناء على ما أخبروا به، ويبين لهم سبب أمرهم بالتثبت من صحة الخبر، فقد أمرهم به لئلا ينتج عن قبولهم الأخبار الكاذبة تصرف يؤدي بهم إلى إصابة قوم أبرياء بظلم عن جهالة وتسرع فيندمون عندما يعرفون حقيقة الخبر ويتيقنون من خطئهم. ويذكرهم بعد ذلك بوجود رسوله بين أظهرهم يرشدهم ويبلغهم عن الله؛ لذلك يلزم توقيره والتأدب معه والانقياد له واتباع ما يدعوهم إليه؛ لأنه أعلم بمصالحهم وأرحم بهم من أنفسهم. ولو أن الرسول -نتيجة تسرعهم واندفاعهم-أطاعهم فيما يريدون وفيما يشتهون ويختارون لأصابهم العنت والحرج والمشقة والضرر، ولذلك عليهم أن يطيعوا الرسول فيما يدعوهم إليه ويأمرهم به؛ لأنه يتلقى عن الله، وما دام الوحي موجودا فينبغي العودة إليه لتجنب سوء المصير، وقد جنب الله المؤمن بفضل منه ونعمة الوقوع في العصيان؛ لأنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم فأطاعوا رسوله وانقادوا له وكره إليهم في نفس الوقت الكفر(1) والفسوق (2)والعصيان(3). وأثنى الله سبحانه عليهم فوصفهم بالراشدين أي الذين استقاموا على طريق الحق وثبتوا عليه، وإن كان رشادهم بفضل من الله ونعمة. والله عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية، حكيم في أقواله وأفعاله.
4 – وبعد أن أشارت الآيات السابقة إلى ما كان يمكن أن يحدث من ظلم المؤمنين لجماعة مؤمنة أخرى لو أنهم تسرعوا في قبول خبر الفاسق، مما كان سيجر إلى أن تقتتل طائفتان من المؤمنين لولا رعاية الله لهم وإرشاد الرسول . تنقلنا السورة إلى افتراض نشوب قتال بين طائفتين من المؤمنين فتضع التشريع العملي لوقف القتال وحسم النزاع. فيوجه الله سبحانه أمره إلى الجماعة المؤمنة بأن تتدخل بسرعة إذا نشب قتال بين طائفتين من المؤمنين لإيقاف القتال وللإصلاح بينهما على أساس الاحتكام إلى أمر الله وكتابه، والغالب كما يوحي التعبير أن تستجيب الطائفتان إذا دعيتا إلى كتاب الله. ولكن إذا استجابت إحداهما ورضيت بقبول الإصلاح، ورفضت الأخرى واستمرت في عدوانها وفسادها، أن يردوهم إلى طريق الله وليقبلوا الانصياع لحكم الله. فإن رجع البغاة عن ظلمهم بعد تدخل المؤمنين فعليهم أن يقبلوا منهم رجوعهم إلى الحق وأن يصلحوا بين المتخاصمين إصلاحا يقوم على العدل الكامل والإنصاف التام الذي يؤدي إلى اقتلاع جذور أسباب الخلاف والقضاء نهائيا عليها عن طريق إعطاء كل ذي حق حقه.
ويقرر الله سبحانه بعد ذلك حقيقة على أساسها طلب منهم أن يتدخلوا للإصلاح وهي أن المؤمنين جميعا إخوة، وأنهم محصورون في الأخوة ومقيدون بها لا يتصرفون فيما بينهم إلا وفق مبدئها. ولذلك فمن لوازم هذه الأخوة ومن مقتضياتها ونتائجها السعي في الإصلاح بين من تخاصم من المؤمنين أفرادا أو جماعات، وعلى المؤمنين جميعا أن يلزموا طاعة الله وأن ينصاعوا لأوامره وينفذوا ما أمر به من الإصلاح فيما بينهم لعل الله سبحانه يشملهم برحمته الواسعة في الدنيا والآخرة.
أ. د. عبد العالي احجيج
————
1 – الكفر: مأخوذ من كفر الحب إذا دسه في التراب وأخفاه, ومنه الكافر بمعنى الزارع، ومن هذا المدلول المادي تفرع المدلول المعنوي الذي يفيدان الكافر هو المشرك والمنكر لوجود الله، فكأنه باعتقاده الخاطئ يخفي حقيقة وجود الله.
2 – الفسوق: يطلق ويراد به الخروج عن حدود الله بارتكاب الكبيرة. وقد يراد به الكذب كما هو مفهوم من قوله تعالى: إن جاءكم فاسق فالفاسق هو الكذاب والكذب من الكبائر.
3 – العصيان: يشمل جميع أنواع المعاصي ويرى بعض العلماء أنه يفيد مخالفة أمر الله بارتكاب الصغيرة.