يضع الفكر الإسلامي الإنسان المسلم على طريق واسع الآفاق، فيخرجه من المضايق المحدودة في الفكر والعمل إلى الرحاب الواسعة نحو التجديد والإبداع، كما ينقله من مجرد التفكير في حدود الدنيا إلى الجمع بينها وبين الآخرة، وينقله من مجرد التفكير في ذاته إلى العناية معها بمن حولها، ويأخذه من عوالم العناية بالمادة والانشغال بها فقط إلى رعاية العالمين المادي والروحي، إلى آخر تلك الآفاق.
لا تعلمون شيئا:
قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْاَبْصَارَ وَالْاَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (النحل: 78)، تمثل هذه الآية مرحلة يعرفها كل إنسان دون نكير، حيث يُخلق الإنسان لا حول له ولا قوة لأنه فقير فقرا ذاتيا كما يقول ابن القيم، ثم زوده الخالق سبحانه بوسائل الإدراك التي يحصِّل بها العلوم والمعارف والخبرات، التي تنمو معه شيئا فشيئا، وتزيد بحسب جهده ومساحة حركته وطبيعة مصادر التلقي لديه. ومهما بلغ المرء في تحصيل العلوم، بل مهما كانت حصيلة البشرية كلها من العلم والمعرفة والكشف عن مكامن الكون؛ فإن ذلك كله ما هو إلا قليل، مما في علم الله، فقد قال الله تعالى: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (الإسراء: 85)، ومع هذا فقد حث الإسلام على دوام النظر والفكر والسعي لاستجلاب العطاء الرباني الدائم والممدود، سواء أكان ذلك في العلوم والمعارف أو في المحسوسات والماديات، وهنا يدرك المسلم أن عطاء الله لا يتوقف، وبالتالي عطاء المسلم يتجدد ولا يتوقف.
العلوم منح إلهية للأولين والآخرين:
لا ينبغي للمسلم وهو صاحب رسالة أن تقف همته في تحصيل المعارف والعلوم عند حد محدود، وبخاصة في مجال تخصصه الذي هو فرض عين، ولا يصح له أن يتصور أن المعارف قد أتى على آخرها الأولون، فلا سبيل إلى مزيد ولا طريق إلى جديد، وقد قال الجاحظ: “إذا سمعتَ الرجلَ يقول: ما ترك الأوَّلُ للآخِر شيئاً، فاعلمْ أنه لا يريدُ أن يُفلِح”؛ لأنه حينئذ سيعطل طاقاته ويدور في فلك غيره، وفي ذات الوقت لا يقدر عطاءات الله المتجددة التي لا يحرمها جيل لتأخره، ولا ينالها جيل لتقدمه، يعبر عن ذلك ابن مالك- رحمه الله- صاحب الألفية في النحو قائلا: “وإذا كانت العلومُ مِنَحاً إلهية، ومواهبَ اختصاصيةً فغيرُ مستبعَدٍ أن يُدَّخَر لبعض المتأخِّرين ما عسُرَ على كثيرٍ من المتقدِّمين، أعاذنا الله من حسدٍ يسدُّ بابَ الإنصاف ويصدُّ عن جميل الأوصاف”.
ومن أنفس العبارات عبارة حاجي خليفة في مقدِّمة “كشف الظنون”: “واعلم أن نتائجَ الأفكار لا تقف عند حدٍّ، وتصرُّفاتِ الأنظار لا تنتهي إلى غاية، بل لكل عالم ومتعلم منها حظٌّ يُحْرزه في وقته المقدَّر له، وليس لأحدٍ أن يزاحمه فيه؛ لأن العالَم المعنوي واسعٌ كالبحر الزاخر، والفيضَ الإلهي ليس له انقطاعٌ ولا آخر، والعلومُ منحٌ إلهية ومواهبُ صَمَدانية، فغير مستبعد أن يُدَّخَر لبعض المتأخِّرين ما لم يدَّخر لكثير من المتقدِّمين، فلا تغترَّ بقول القائل: “ما ترك الأول للآخر”، بل القول الصحيح الظاهر: “كم ترك الأول للآخر”، فإنما يُستجَاد الشيء ويُسترذَل لجَوْدته ورداءته لا لقِدَمه وحدوثه. ويقال: ليس بكلمةٍ أضرَّ بالعلم من قولهم: “ما ترك الأول شيئاً” لأنه يقطع الآمال عن العلم، ويحمل على التقاعد عن التعلم، فيقتصر الآخر على ما قدَّم الأولُ من الظواهر وهو خطر عظيم وقول سقيم، فالأوائل وإن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها فالأواخر فازوا بتفريع الأصول وتشييدها، كما قال : «مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره» (رواه البغوي وأحمد والترمذي).
وعبارات العلماء كثيرة في بيان هذه الفكرة التي ينبغي إشاعتها لبعث الأمل وإيقاظ الهمم في نفوس المتأخرين، لينطلقوا مجتهدين مستعينين بالله تعالى ليحصلوا نصيبهم من فيض الله وعطائه؛ ليأتو بالجديد النافع كلٌ في مجاله وتخصصه.
جامعاتنا العربية والإسلامية وجائزة نوبل:
تابعت مؤخرا وأنا مشغول بفكرة العطاء المتجدد وسائل الإعلام لمعرفة الحائزين على جائزة نوبل، ومعها تابعت بعض التقارير المعنية بتصنيف الجامعات، فلاحظت أن الفائزين في مجال الفيزياء ثلاثة غير مسلمين، جميعهم يعملون في جامعات أمريكية، وفي مجال الطب حازها ياباني، وفي مجال السلام حصل عليها رئيس كولومبيا، ولم أعثر على أحد من العرب والمسلمين في هذا المجال التنافسي المعرفي والتقني، ونقول مثل ذلك في مراتب جامعاتنا العربية والإسلامية حيث تأتي أغلبيتها في مؤخرة التصنيفات العالمية غالبا، وكان ينبغي أن يحوز المسلمون مراتب متقدمة في المجالات المعرفية المؤثرة، وهم الذين يدركون أن عطاءهم ينبغي أن يتجدد بتجدد عطاءات الله للإنسان، وتجدد متغيرات الحياة ونوازلها، والواجب علينا وبالخصوص العلماء منا والنخب وأصحاب التوجيه أن نبث روحا جديدة في تحصيل العلوم ل نأتي فيها بالجديد النافع، من خلال البحث في مواقع جديدة تلبي احتياجات الأمة وتسد ثغراتها.
الطريق إلى العطاء المتجدد:
إن سلامة القلب، وصفاء العقل، وخلوه من الأحقاد والمشاغل، مع طول البحث وكثرة السؤال، ودوام الجد، وكثرة التكرار والمدارسة، والاستعانة بالله مع مداومة الاستغفار وتجديد النية وصفائها، ووضوح الغاية، وبذل الجهد وطول السهر، والتخلي عن الراحة مع صحة المصدر والتثبت والتأني، ومعرفة الواقع والوقوف على احتياجاته، كل ذلك كفيل بأن يفتح الله من فيض علومه على العبد، وأن يلهمه الرشد في شأنه كله، فيأتي بالجديد النافع للأمة وللعالمين.
وبذلك نخرج من أزمة التكرار الممجوج، والجمود القاتل في كافة العلوم، فيتقدم المجددون ويُكرَّم المبدعون، وتنطلق عملية البحث العلمي من رهن الترقيات والقيود البحثية الشكلية التي من شأنها قتل الروح البحثية وإضعاف النزعات التجديدية إلى أفق الإبداع والعطاء المتجدد، وصدق العقاد عندما قال: “إن الوظيفة الحكومية هي عبودية القرن العشرين”، وهل من شأن العبد إلا التقليد والتبعية.
د. أحمد زايد