أولا: الدين جوهر التاريخ وروح الحضارة:
في العدد السابق من جريدة المحجة 464 بينا أن الدين جوهرُ الحضارة ومحرك التاريخ، وأساس العمران، والروح الحقيقي للإنسان.
فحضارات الشرق الأقصى (الصين واليابان والهند) لم تقم إلا على معتقدات دينية ولا تزال، وحضارات آسيا الوسطى (فارس وما جاورها) انطلقت من أفكار دينية ولم تتحرك إلا بها وبها لا بغيرها تفاعلت مع غيرها، وحضارات مصر القديمة والعراق كانت في أساسها دينا، كما أن حضارات أوروبا اليونانية والرومانية قامت على أسس دينية وأصول عقدية رغم ما يدعى من تجاوز الفكر اليوناني للخرافة والدين وقيامه على العقل، بل حتى العالم المعاصر نفسه -رغم ما يظهر عليه من غلبة التوجه المادي والعلماني- إلا أن الذي يحرك صراعاته وتفاعلاته إنما هو العقائد الإيمانية والمعتقدات الدينية بغض النظر عن صحتها أو عدم صحتها، وبغض النظر عن مصدرها الإلهي أو البشري، ولا يزال الدين محركا ظاهرا و خفيا للفكر الأوروبي ولتوجهاته الكبرى، وهو -بدون مبالغة- المحدد لفلسفة العلاقات الدولية سلما وحربا، تصالحا وتصادما، تعاونا وتعاركا.
وهذه الحقيقة يقررها الاستقراء لأحداث التاريخ وقيام الأمم وسقوطها، وأثبتتها أبحاث العلوم الاجتماعية والإنسانية وعلماء الحضارة، لا فرق في ذلك بين الحضارات القديمة أو المعاصرة.
فهذا غوستاف لوبون (1841 – 1931) الطبيب والمؤرخ الفرنسي في كتابه “سر تطور الأمم” يجعل مبادئ الدين أهم عنصر في حياة الأمم ويرى أن جميع التنظيمات السياسية والتدبيرات الاجتماعية قامت منذ التاريخ على معتقدات دينية… وأن الدين أسرع وأقوى العوامل المؤثرة في الأخلاق.
وليس هذا فحسب بل إن قوة الحضارة وضعفها يدور طردا وعكسا مع قوة التدين وضعفه في الأمة،إذ قيام الأمم بأعظم الأعمال كان في عصر تدينها. (سر تطور الأمم ص: 130 – 131).
وفي نفس السياق نجد أيضا أرنولد توينبي (1889 – 1975) -من كبار مؤرخي وفلاسفة التاريخ والحضارة في القرن العشرين- يرد حركة التاريخ والحضارة إلى الدين أساسا، سواء أكان دينا منزلا من السماء أم معتقدات مختلقة، ويجعل وظيفة الدين هي حفظ النوع الحضاري، وأنه الشرط الضروري للارتقاء والتقدم، وأن الارتقاء الحقيقي للحضارة إنما يتمثل في الارتقاء الروحي أساسا. (توينبي: مختصر الحضارات: ص 102).
ثانيا: الفكرة لا تصير مؤثرة حضاريا إلا حين تصير اعتقادا:
يعترض البعض على صحة القانون أعلاه بوجود حضارات لم تقم على الدين، ووجود فلاسفة ومفكرين ناهضوا الفكرة الدينية، مستدلين أن الإنسان في جوهره مادي، وأن مختلف أنشطته تحركها غرائزه البدنية، وهي التي كانت وراء ظهور أنشطته الاجتماعية في الاقتصاد والسياسة والتمدن والسلم والحرب، وأنه لولا الغرائز البدنية ما كان للحضارة وجود.
وفي هذا السياق قرر أوجست أن الدين كان مجرد مرحلة تاريخية بدائية، كما قررت الماركسية أن الدين مجرد وهم وأفيون للشعوب يزيف وعيها ويعيق حركتها وحركة الإنسان في الواقع، ويؤخر حركة التاريخ، وأن العوامل المادية الاقتصادية هي الفاعل الأساس في حركة الإنسان والمجتمع.
والواقع أن كلا من الوضعية والماركسية وما سبقهما في أوروبا أو لحقهما من دعوات لرفض الدين وتأكيد الجوهرية المادية للإنسان والحياة، ما صارت لها تلك القوة في تحريك الجماهير، وتوجيه الحضارة المعاصرة توجيها ماديا إلا بتحولها إلى عقائد دينية، وإيديولوجيات وثوقية تحل محل الدين بل هي الدين الجديد؛ ولذلك بين سيد قطب رحمه الله تعالى أن الإلحاد والشيوعية ليست مجرد نظام اجتماعي.. إنما هي كذلك تصور اعتقادي، تصور يقوم على أسس مادية في هذا الكون. (المستقبل لهذا الدين ص: 14).
كما أكد الدكتور عبد المجيد النجار “أن كل إنكار للدين ليس إلا نكرانا ظاهرا للدين وأنه في الواقع ينشأ عند المنكرين ضرب من التدين يعوض في نفوسهم التدين الحقيقي وهو تدين يتمثل في نزوع إلى تقديس موجود مادي أو معنوي، يحل في النفوس محلا يشبه المحل الذي يكون لله في نفوس المؤمنين، فإذا هو في حقيقته ضرب منحرف في التعبير عن المكنون النفسي لفطرة الإيمان”. (الإيمان بالله وأثره في الحياة: عبد المجيد النجار، ص: 10، دار الغرب الإسلامي، 1997).
والخلاصة الجامعة أن تاريخ الأمم وحضاراتها إنما هو انعكاس لصورة تدينها، وأنه مهما انحرفت منجزاتها لتتخذ أشكالا ومظاهر مادية فلا تعدو إلا أن تكون مجرد تعبير ظاهري وخارجي عن اعتقادات إيمانية باطنية صحيحة أو فاسدة هي التي تعد المحرك الأساس لكل أنشطة الأمة والحضارة أفقيا وعموديا ظاهرا وباطنا، كليات وجزئيات.
الطيب بن المختار الوزاني