عن معاوية بن أبى سفيان قال: سمعت رسول الله يقول: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله» (صحيح البخاري).
التفقه في الدين ضرورة دينية وكونية؛ لأنه الساهر على حفظ مصالح البلاد والعباد، وركن أساس لبناء مجتمع تقام فيه العدالة، وتصان فيه الكرامة. هذا الأثر الكبير للتفقه غاب كثيرا عن واقعنا منذ زمن ليس بالقصير، وتكونت للناس بخصوصه تمثلات خاطئة روجت لخدمة أهداف معينة. مما يجعلنا نتساءل عن الغاية من نشر هذه الشبهات عن الفقه والفقيه؟ وهل لها مستند علمي موضوعي؟ وكيف يمكننا في المقابل إعادة الفقه والفقيه إلى قيادة سفينة المجتمع لترسو على شواطئ النجاة؟
أولا: التفقه في الدين بين الممانعة والإقصاء
سبق الحديث في الحلقة السابقة عن الممانعة الذاتية والخارجية التي يمتلكها الفقه الإسلامي، لكونه يستمد وجوده من القرآن الكريم والسنة النبوية وما تفرع عنهما من الأدلة والقواعد الشرعية، الشيء الذي ضمن للأمة استمرارها على الخير والصلاح لقوله : «ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله»، فهو ابتداء تشريع رباني، وانتهاء تدبير واقعي يلائم ظروف الحياة العادية والاستثنائية. هذه الممانعة جعلت منه أنموذجا تشريعيا لا يضاهى، وجرت عليه هجمات شرسة لإقصائه عبر استعمال وسائل كثيرة منها:
1 – توظيف السلطة السياسية:
تمثل التخطيط السياسي لإقصاء الفقه في الدين وتهميشه وتقليل فرص التفقه فيه في الحملة العشواء التي شنت منذ قرون عدة على الشريعة الإسلامية ذاتها، ثم تحولت إلى تدخل سافر في عهد الاستعمار لمنع البلدان الإسلامية المستعمرة من تدريس الشريعة والتضييق عليها عبر وسائل عديدة منها:
الاتفاقيات والمواثيق الدولية؛ وإرغام الشعوب الإسلامية المستضعفة على تطبيقها إذا أرادت أن تدخل تحت حماية المنتظم الدولي المزعوم، وتم تسخير وسائل إعلامية واقتصادية لفرض بنود هذه المواثيق على المجتمعات الإسلامية رغم مخالفتها الصريحة لما هو قطعي من أحكام الشرع، مثل بعض أحكام التشريع الجنائي الإسلامي، وبعض أحكام الأسرة، والآن يأتي الدور على أحكام الإرث لا قدر الله، واعتبر كل من يخالف هذه المواثيق متمردا على قرارات المجتمع الدولي، ويصنف ضمن لائحة المنظمات الإرهابية التي يتم صنعها وطبخها في دهاليز مؤسسات صنع القرار الدولية؛ لذلك تمت الموافقة من معظم الدول الإسلامية على هذه الاتفاقيات لنيل رضى المستعمر مصداقا لقوله : «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه». قلنا يا رسول الله: اليهود، والنصارى. قال: «فمن» (صحيح البخاري).
تطبيق القوانين الوضعية في كل شؤون الحياة الاجتماعية للمسلمين؛ والبحث عن طرق لبيان توافقها مع المواثيق الدولية، وفي حالة المقاومة يتم التدخل عسكريا بشبهة حماية حقوق الإنسان، وحفظ الحريات العامة، وتأسيس مبادئ الديمقراطية، وبناء الدولة المدنية… وغيرها من الشعارات التي تبيح محاربة الأحكام الشرعية. وشجع على ذلك بعض المسلمين ممن يحمل لواء الغرب ويهتف باسمه. قال تعالى: ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم (محمد: 9). وقال تعالى: ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (المائدة: 50). وبواسطة هذه القوانين تم إقصاء المدارس الشرعية، ودور القرآن، وأصبح كل من لم يدرس وفق مناهج التعليم الغربي غير معترف بكفاءته العلمية، ولا تسلم له أي شهادة، ولا يسمح له بمقتضى القانون ولوج مباراة التوظيف، وهو إقصاء واقعي للتفقه في الدين وأهله.
2 - فرض مناهج وبرامج تعليمية دخيلة:
انتهج المستعمر منذ بدايته خطة محكمة للقضاء على كل منابع الصحوة للوجود الإسلامي، وعلى رأسها تدريس العلوم الشرعية، التي يستمد المسلم منها أحكامه، وهويته، وقيمه. ولإحكام خطته أنشأ مدارس غربية في الدول المستعمرة، وفرض فيها مناهجه وبرامجه التعليمية، وأرغم السلطات على الاعتراف بخريج هذه المدارس فقط، لتوفير فرص العمل لهم وإدماجهم في مناصب حساسة في مؤسسات البلد، وكان ذلك كافيا ليقبل أبناء البلدان الإسلامية على التعليم الغربي من أجل تحصيل لقمة العيش، وسخر المستعمر وسائل الإعلام من أجل ربط كل جهل وتخلف بتدريس العلوم الشرعية وما يخدمها من قريب أو بعيد، ومن هنا بدأ التمييز بين التلميذ العلمي الذكي، والتلميذ الأدبي البليد، وهو تمييز مغرض مستورد، لا زال الناس يشتغلون عليه دون أن يعودوا إلى أصلهم ليكتشفوا أن التعليم الإسلامي يزاوج بين العلوم الكونية وعلوم الوحي، والتاريخ شاهد على وجود علماء في الرياضيات، والطب، والكيمياء، وهم في نفس الوقت فقهاء في معرفة أحكام شريعتهم، ولترسيخ فكرة الذكي والغبي، قام الغرب بفتح أبواب مدارسه بالخارج لاستقطاب أبناء الأعيان “الأذكياء” ليشحنوا بقيم وقناعات غربية، كلها تصب في تهميش العلوم الشرعية، ليباشر تلامذتهم النجباء بعد التخرج تطبيق مخططاتهم واعتبار كل مطالب بتدريس الأحكام الشرعية وتطبيقها في واقع الناس عنصرا مشوشا يمكن أن يعرض لتهمة الإرهاب والتخريب.
ومن أجل ضمان عدم وجود مثل هذه المطالب مستقبلا، تمت الدعوة مرات عديدة لمراجعة مادة التربية الإسلامية؛ فقلصت حصتها لساعة واحدة في الأسبوع، وخفض معاملها، وتم إسناد مهمة تدريسها لغير أهل الاختصاص قديما، وحديثا من خلال تطبيق مذكرة المواد المتجانسة، وأفرغت هذه المادة من محتواها العلمي، فأصبحت عبارة عن مجلة للأخلاق العامة، بعد ما حذف منها كل ما له علاقة بالتفقه في الدين، ليبقى المتعلم المسلم بعيدا عن معرفة أحكام شريعته، وهذه بداية الطريق لفرض مبادئ العلمانية على واقع المسلمين. وأخشى نتيجة هذا الاستكبار عن منهج الله تعالى أن ينطبق علينا الجزء الأخير من حديثه : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» (صحيح البخاري).
ثانيا: آثار إقصاء التفقه في الدين ومحاصرته
هذه الآثار يجسدها المفهوم المخالف لقوله : «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»، فعدم التفقه في الدين تحذير صريح بوجود خلل في المجتمع، وإن كانت نسبته تقل أحيانا، وتكثر أخرى؛ لقوله : «ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله» (صحيح البخاري) أن الخير لن ينقطع من هذه الأمة بمشيئة الله تعالى، لكن للانحراف عن شرع الله آثار سيئة عديدة منها:
أ – من الناحية النفسية؛
شيوع الشعور بالانهزام والضعف، وعدم القدرة على المبادرة ومباشرة الإصلاح، لضعف الإيمان بالله، وغياب الثقة به؛ نتيجة تفريط المسلم في شريعته التي تربيه على مواصلة الاجتهاد في العمل، باعتباره عبادة ومنقذا من الذل والهوان قال : «لا يغرس مسلم غرسا، ولا يزرع زرعا، فيأكل منه إنسان، ولا دابة، ولا شيء، إلا كانت له صدقة» (صحيح مسلم). فالإسلام مبني على عدم الاستسلام لأمر الواقع، والشعور بالانهزام رسخت في نفوس شبابنا الخمول والكسل، والاعتقاد بأن الخلاص يكمن في الهجرة إلى بلاد الغرب لتحقيق الرفاهية، ففقدنا طاقات بشرية هائلة قادرة على تطوير بلدها؛ فالتفقه في الدين يحارب هذا الانهزام النفسي، ويرسخ لدى المتعلم روح الاعتزاز بالإيمان ويقوي لديه الشعور بالانتماء للحضارة الإسلامية والأمة؛ لأن ذلك جزء من الإيمان بالله، وضرب من التدين الشامل.
ب – من الناحية الفكرية؛
الجهل بأحكام الشريعة العادلة، ورمي التراث الفكري الإسلامي بالتخلف، مع العلم أن الإسلام يعطي للعلم مكانة خاصة لا ينكرها إلا متكبر جاحد، قال : «.. ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة..» (صحيح مسلم)، وقال : «لا حسد إلا في اثنين… ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» (صحيح البخاري). هذا الجهل بالفقه الإسلامي ورَّث لدى أجيالنا إعجابا شديدا بالحضارة الغربية المادية، وأصبحت الدعوة إلى تطبيقها على الفرد والأسرة والمجتمع حديث الساعة، ظنا منهم وجهلا بحضارتهم أن التفقه في الدين ضد المساواة، وضد الحرية، ولو كلفوا أنفسهم قراءة تراثهم الفقهي بموضوعية وتجرد، لتيقنوا أن العدل الحق، والمساواة الفطرية الشاملة، والحرية الإنسانية المتوازنة، لا وجود لها حقيقة إلا في تطبيق شريعتهم التي تضمن لهم قيمهم وكرامتهم وإنسانيتهم.
ج – من الناحية السلوكية؛
الخلط بين التصرفات النابعة من الشريعة الإسلامية والموافقة لمنهجها ومقاصدها، وبين التصرفات الفردية التي يقوم بها بعض المسلمين نتيجة جهلهم بأحكام دينهم، فينسبون كل سلوك بشري منحرف لأحكام الفقه الإسلامي، ويركزون إعلاميا وسياسيا على مثل هذه السلوكات لتنفير المسلمين وغيرهم من التعرف على مبادئ الإسلام وأحكامه، ويصفونه بالإرهاب ظلما وبهتانا؛ وفي المقابل يصرح نخبة الغربيين بعدائهم الشديد والتفقه للدين الإسلامي، ويبنون حملاتهم الانتخابية على محاربة أحكامه، دون أن يجرم أحد ذلك، في حين إذا تكلم مسلم بالسوء عن الحضارة الغربية يتم اتهامه بالتطرف ونشر الفتنة، مما أكد لنا أن الحداثة التي يتغنى بها الغرب، تحولت إلى إيديولوجيا تحاكم كل من يخالفها بالإرهاب والتطرف.
ذ. محمد البخاري