تقوم الحضارة على ثلاثية متكاملة هي (الإنسان – الأشياء- المنهج)، فـ “الإنسان بثلاثيته: الجسد، الروح، العقل” هو ركن العملية الحضارية ومحورها الأول حيث هو مكلف، سخر الله تعالى له الكون، وتحدث في كتابه عن هذا التسخير، ليلفت نظر هذا المكلف إلى الركن الثاني المبثوث في الكون وهو “الأشياء” في سماء الله وأرضه ليقوم بإثارة الأرض والنظر في الكون ليحقق العمارة المرجوة، ولا يكون ذلك تاما ولا راشدا إلا بـ “منهاج صحيح”.
وإذا كانت مهمة الإنسان في هذه الدنيا تنحصر في عبادة الله وعمارة الكون، فهي مهمة لا تقوم إلا بجناحين: العبادة والعمارة، وعندما يسعي المسلم لتحقيق تلك المهمة لابد أن يدرك أن الله تعالى فصَّل له كيفية التعبد، إذ ليس هذا مجال اجتهاده البشري، وترك له تفصيل كيف يُعمِّر في إطار جملة من القواعد الكلية والمسالك الجملية، منها:
- ضرورة النظر في الكون نظرة عميقة لا ساذجة، وسذاجتها أن تقف عن قول سبحان الله، وعمقها أن يرى الناظر مكنون خيرات الله المسخرة للإنسان في كل شيء من الكون.
- التوسل بإثارة الأرض إلى مكنوناتها: وهي تقليبها لا للزرع فقط وإنما لاستخراج كافة مكنوناتها التي تكتشف يوما بعد يوم.
- تسخير المستخرج من تلك المكنونات في خدمة المهمة (العبادة والعمارة).
- حماية المنجزات الحاصلة بما سبق لخدمة الرسالة، والاستمرار في العبادة، وصولا إلى إقامة حضارة ربانية عالمية.
وأثاروا الأرض وعمروها:
لقد تحدث القرآن عن أمم أقامت حضاراة وعُمِّروا في الأرض طويلا، وكانوا أُولِي قوة وأولي بأس شديد، وقد وصلوا إلى هذه الحالة الحضارية بعملين:
أثاروا الأرض وعمروها، يقول الطبري: “وَأَثَارُوا الأرْضَ” واستخرجوا الأرض، وحرثوها وعمروها أكثر مما عمر هؤلاء”.
ومن هؤلاء قوم سبأ حيث امتلكوا قوة حضارية، عبر عنها الجنود بقولهم نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد يقول ابن عاشور: “والقوة: حالة بها يقاوم صاحبها ما يوجب انخرامه، فمن ذلك قوة البدن، وقوة الخشب، وتستعار القوة لما به تُدفع العادية وتستقيم الحالة؛ فهي مجموع صفات يكون بها بقاء الشيء على أكمل أحواله كما في قوله : نحن أولوا قوة (النمل: 33)، فقوة الأمة مجموع ما به تدفع العوادي عن كِيانها وتستبقي صلاح أحوالها من عُدد حربيّة وأموال وأبناء وأزواج….
ويعلق على قوله تعالى: أثاروا الأرض بقوله في معنى الإثارة: “وهي تحريك أجزاء الشيء، فالإثارة: رفع الشيء المستقر وقَلْبُه بعد استقراره… وأطلقت الإثارة هنا على قلب تراب الأرض بجعل ما كان باطناً ظاهراً وهو الحرث… ويجوز أن يكون أثاروا هنا تمثيلاً لحال شدة تصرفهم في الأرض وتغلبهم على من سواهم بحال من يثير ساكناً ويهيجه، ومنه أطلقت الثورة على الخروج عن الجماعة. وهذا الاحتمال أنسب للمقصود الذي هو وصف الأمم بالقوة والمقدرة من احتمال أن تكون الإثارة بمعنى حرث الأرض لأنه يدخل في العمارة… ومعنى عمارة الأرض: جعلها عامرة غير خلاء وذلك بالبناء والغرس والزرع”.
إن الأمم غير الإسلامية تثير الأرض اليوم وتعمرها، وتتمكن من مفاصل الحياة ومراكز القوى والتأثير فيها في حين تقف أمتنا بعيدا وكأنها في حالة سكر وغياب عقل، حتى غدت تستورد غذاءها ودواءها وسلاحها من عدوها، وهذا لا يليق بأمة نادها ربها بكمَّ هائل من التوجيهات الحضارية والتي أبرزها “إثارة الأرض وعمارتها”.
القوة علم والعلم قوة:
قالوا إن العلم قوة والقوة علم، وقد فهم أعداؤنا ذلك وقرروا أن يحجبوا عن المسلمين العلوم والتقنيات والمعارف المؤثرة، ومن يقرأ وثيقة هنري كامبل رئيس وزراء بريطانيا 1907 يجد مخططا ثلاثي الأبعاد أحد أجنحته “حجب التكنولوجيا عن المسلمين والعرب”، باحتكار المعرفة وأسرار العلوم والتقنيات وعدم تمكينهم منها، وبالتقصير في تحصيل التكنوجيا والمعلومات فقدت الأمة مفاتيح الإثارة والاستخراج والعمارة، حتى إن بلدا كمصر مثلا بها قريب من ستة ملايين مريض بالسكر، وتستورد دواءه من الدانمارك، وإذا ما قامت بعض الصحف الدانماركية برسوم مسيئة لرسولنا الكريم قلنا في حالة ثورتنا وغضبنا يجب مقاطعة البضائع الدانماركية، ونسينا أننا مهددون بقطع الدواء عن هذه الملايين المريضة، هذا نموذج فقط يمكن القياس عليه في كل المجالات العسكرية والصحية والغذائية والتكنولوجية في كافة دولنا الإسلامية.
واجبنا:
من الواجب الشرعي والوطني والإنساني توجيه الأبناء توجيها ليسهموا في صناعة التغيير والإصلاح والبناء الحضاري، وهؤلاء طبقتان:
الأولى: طبقة العامة. والثانية: طبقة الخاصة والنخبة.
أما العامة فيجب أن نوجههم إلى أمرين:
- تعبيد سعيهم لله تعالى بحيث تكون نواياهم في ذلك السعي الدنيوي، لله تعالى، ويكون ذلك دافعا ليتقنوا أعمالهم وينضبطوا في أوقاتهم ومواعيدهم، ويبدعوا في وظائفهم وحرفهم وصنائعهم، ويقصدوا نفع الناس بتلك الأعمال، ولا يفصلوا ولو شعوريا بين الشعائر التعبدية والأعمال الدنيوية فالكل في سبيل الله حسب تقرير الإسلام.
- تهيئة أناس من بينهم ليقوموا بفروض الكفايات، وهي الأعمال والصنائع والعلوم والتخصصات المتنوعة التي تقوم عليها الحياة، والتي يمكن أن تسهم في انعتاقنا من ربقة الاستعباد الغربي في مجالات الحياة الحيوية التي أشرت إليها.
وأما الخاصة فعليهم واجبان كذلك:
- صناعة وعي العامة بتقديم ثقافة إسلامية تستنهض هممهم بعيدا عن تلك المهاترات الحزبية أو الفكرية التي تزيد في ضعف الأمة ويأسها.
- الخروج من دائرة التفكير في مصلحة الذات إلى دوائر أكبر حيث مصلحة الأسرة، والمجتمع والوطن بل والبشرية، وحينئذ يعظم السعي ويتضاعف الجهد في تحقيق فروض الكفايات التي بها قيام الحياة.
إن الحياة الإسلامية لا تقوم بالشعائر وحدها، وإنما امتلاك أسباب الحياة ومفاصلها المؤثرة وقوتها الفاعلة هي الحياة الإسلامية الحقيقية.
د. أحمد زايد