إن الله قال: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافطون، وحفظ القرآن يقتضي حفظ الشريعة من التحريف والانتحال والتأويل الخاطئ، واقتضت حكمة الله تعالى أن يكون هذا الحفظ على آياد آمنة، على آياد علماء أجلاء لا يخلو منهم زمان ولا مكان، مصداقا لقول الرسول في حق هذه الأمة: «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، وهكذا نجد في كل مكان علماء ذاع صيتهم في الأرجاء، وبلغت شهرتهم الآفاق، يعرفهم القاصي والداني، يدافعون وينافحون عن هذا الدين جزاهم الله أحسن الجزاء، وبالموازاة مع ذلك، هناك علماء آخرون يعملون في السر والخفاء لا يعرفهم إلا الخاصة من هذه الأمة؛ لأنهم لا يسعون وراء شهرة أو صيت أو حظ من الدنيا، يعملون ليلا ونهارا، وهبوا حياتهم لبيان شرع رب العالمين بكل ما أوتوه من قوة العلم ورصانة الفكر، يردون على كل من سولت له نفسه القدح أو النيل في جانب أو حكم من أحكام هذا الدين، وسلاحهم في ذلك القلم، وعدتهم وعتادهم العلم بالشريعة الإسلامية أحكاما وحِكما، ومن هؤلاء أو على رأسهم: العلامة الدكتور سيدي محمد بن قاسم التاويل فقيه فقهاء المشرق والمغرب رحمه الله تعالى وأجزل له العطاء.
ونحن في هذا المقال الموسوم بـ”المنهج الاجتهادي عند العلامة الدكتور محمد التاويل رحمه الله” حاولنا أن نستقصي بعضا من معالم منهجه مع الاستشهاد على ذلك ببعض آرائه، أما الإحاطة بمنهجه بشكل عام فأمر متعذر في هذا المقام، ولعلها تكون محاولة لتحريك همم من هم أحق بالبحث في هذا الموضوع ممن هم أهل لذلك.
وإننا نعني بمنهجه الاجتهادي: اجتهادَه -رحمه الله– في الاستنباط العام واجتهادَه في التنزيل أي تنزيل النص على الواقع، فالأول أي الاستنباط العام، فهم مجرد للنص دون مراعاة الزمان والمكان والأشخاص، والثاني أي الاجتهاد في التنزيل بخلاف ذلك، إذ يستحضر المجتهد في فهمه وتنزيله الزمان والمكان والأشخاص أو المجتمع.
من معالم المنهج الاجتهادي عند العلامة الدكتور سيدي محمد التاويل:
لقد سبق وأن أشرت إلى أن الإحاطة بالمنهج الاجتهادي عند الشيخ بشكل عام أمر متعذر في هذا المقام، لذا سأقتصر على بعض منها فقط، ومنها:
• المرجعية المعيارية لنصوص الشرع:
لقد كان الشيخ رحمه الله وقافا عند نصوص الشرع، فهي الحكم الفصل عنده، لا يحاول ليها لمجاراة الواقع أو لمداهنة أحد، ولا يحملها أكثر مما تطيق ليرضي اتجاها فكريا معينا، وذلك في كل كتاباته ويعلنها أحيانا صراحة في وجه المخالفين، ومن أمثلة ذلك:
قوله رحمه الله حين كلامه عن موضوع الزوجة العاطلة عن العمل هل لها الحق في مشاطرة زوجها للأموال المكتسبة خلال الزوجية، فبعد أن أوضح بالدليل والبرهان أن الزوجة التي لا تشارك في إنتاج المال بوجه من الوجوه، ولا تساهم في كسبه من قريب أو بعيد، ويقتصر دورها على شؤون البيت، لا يمكن اعتبارها شريكة للزوج في الأموال المستفادة بعد الزواج ثم قال: “هذه شريعة الله ودينه الذي بلغ رسوله لأمته وعمل به المسلمون والمسلمات من بعده راضين جميعا بحكم الله وقضائه، لا يجادلون فيه ولا يخرجون عنه، حتى ظهر في هذه الأيام من يحاول التشكيك في عدالة الإسلام، ويتهمه بظلم المرأة، وهضم حقها…”.
وهو أيضا ما صرح به حين جزم بعدم مشاركة المرأة لمال زوجها في العمل غير الصناعي الذي شاركته فيه بالعمل، ردا على الإمام ابن عرضون، إذ قال: “… هذا كل ما أعطاه الله للزوجة من مال زوجها وهو ما أكدته السنة النبوية الشريفة ولو كان لها حق آخر غير هذه لبينه الله في كتابه ولبلغه الرسول إلى أمته..”.
وقال أيضا في بيان الحكمة من جعل الطلاق في يد الزوج: “ورابعا وأخيرا، فإن هذا شرع الله ودينه الذي أنزله في كتابه وأكده على لسان رسوله في قوله: «إنما الطلاق بيد من أخذ بالساق» ومن المعلوم أنه حيثما وجد شرع الله فثم مصلحته وحكمته”.
ومن هذا نعلم قدسية النصوص الشرعية عند الشيخ رحمه الله، وحاكميتها المطلقة الصالحة لكل زمان ومكان، كما فهمها الصحابة بدون تعقيد ولا تعمق، ثم هو في كل ذلك يستحضر أنه يتكلم بلسان الشرع ويبين أحكامه، ويوقع عن الله كما أسمى ذلك ابن القيم رحمه الله، ويعتبر الوحدة القياسية هي ميزان الشرع، فما اعتبره الشرع فهو المعتبر، وما لم يلتفت إليه فهو ملغى من الاعتبار، ولو ظهر أنه يحقق مصلحة انطلاقا من حكم العقل، قال رحمه الله في معرض كلامه عن مفهوم العدل: “ليس من حق أي واحد أن يفسر العدل بما يشاء، ويطبقه كما يريد، أو يقيس المساواة بالمقاييس الشرعية حتى لا نقع فيما وقع فيه الفكر الشيوعي والاشتراكي، ولكن الذي أمر بالعدل وشرعه، وحرم الظلم على نفسه، وجعله محرما بين عباده هو الذي له الحق وحده في تفسير العدل الواجب في هذه النازلة وغيرها من النوازل”.
• الشموليّة في المقارنة الفقهيّة:
للشيخ رحمه الله منهج موسوعي خاص في مقارنة القضايا الفقهية وخاصة الحجاجية منها التي هي محل اهتمام العلماء والمنظرين؛ فتجده ينطلق من النصوص الشرعية: القرآن والسنة، ثم أقوال الصحابة والأئمة المجتهدين، ويوظف اللغة كآلة أساسية لفهم تلك النصوص فهما مؤسسا على منهج علمي على غرار الأئمة المجتهدين الأولين، لينتقل بعد ذلك إلى بيان الحكمة أو الحِكم من تشريع الشرع، ومصالحِه المعتبرة المرجوة من هذا الحكم بحسب ما رجحه رحمه الله وتوصل إليه من خلال الخطوات المشار إليها، وهو بين هذا وذاك يستحضر قواعد أصولية وفقهية بطريقة تلقائية سلسة، ويوظفها توظيفا يطابق القصد الذي يصبو إلى تحقيقه، ليستخرج الحُكم والحِكم من ركام من الأقوال؛ ومن أمثلة ذلك:
• قضية قوامة الرجل على المرأة:
استدل رحمه الله على مشروعية القوامة بعدة نصوص قرآنية وحديثية، ثم وظف اللغة لتصور وتصوير مفهوم القوامة، وأسس فهمه لها بناء على ما فهمه من قَبله من الصحابة الأعلام كابن عباس ، والأئمة المجتهدين كالإمام القرطبي -رحمه الله– وبين حدودها ومجالاتها، لينتقل إلى بيان الحكمة من مشروعية القوامة أصلا، وفي الحكمة من إسنادها إلى الرجل وجعلها حقا له على الزوجة، وإقصاء المرأة وحرمانها منها على الرجل، وعدم إشراكها معه فيها.
• مسألة وجوب الزكاة:
إن المنهج الذي اعتمده -رحمه الله– في كتاباته فيما يتصل بالأحكام يضع اللبنات الأساس لقضية إعادة كتابة الفقه التي ينادي بها مختلف العلماء في الوقت الراهن، وهذا المنهج الذي اعتمده رحمه الله يجمع بين التأصيل بالنقل الصحيح والاستنباط السديد، ثم توظيف العقل السليم في بيان الحكم والمصالح، خلافا لمنهج المتأخرين من مختلف فقهاء الأمصار الذين غلبوا منهج الجمع والترجيح بين الأقوال، ولم يضعوا لبيان حكم الشارع ومقاصده من تلك الأحكام موضعا يكون بقدر أهميتها في اقتناع المكلف أيا كان معتقده بتلك الأحكام.
وإذا كانت القوامة ليست من أركان الدين وقواعد الإسلام وغيرها من المسائل التي تناولها الشيخ رحمه الله في مختلف كتاباته، فإن الزكاة المعلومة من الدين بالضرورة بخلاف ذلك، ومع ذلك تناولها الشيخ رحمه الله من مختلف الجوانب وهذا معلم من معالم التجديد: إذ بدأ –كما سبق أن أشرنا إلى منهجه العام– في بيان حكمها بمختلف الأدلة من كتاب وسنة وإجماع، لينتقل إلى بيان أهميتها والحكمة من مشروعيتها ومن جعلها للأصناف الثمانية خاصة كل صنف على حدة، بيانا شافيا كافيا، تتخلل كل ذلك قواعدُ أصولية وفقهية متنوعة من مثل قاعدة: المفرد المضاف إلى المعرفة يعم، والخاص مقدم على العام.
ذ: أناس الكبيري