ارتبطت عبادة الحج في الإسلام بذات أعلى وهدف أسمى، يرشح الإنسان إلى امتلاك أعلى درجات الجودة والوصول إلى قمة الامتياز في العبودية؛ ذلك بأنها العبادة التي تنبني أساسا على عقيدة الإخلاص والتجرد التام لله، والبراءة من عبادة ما سواه، لذا كانت هدفا أعلى يسعى إليه كل مسلم ويحاول تحقيقه مرة في العمر؛ من أجل الارتقاء بإيمانه والتزامه وتنمية ذاته وتطوير مهاراته الشخصية والتواصلية، ومراجعة سلوكياته، والسمو بأهدافه، بالقدر الذي يؤهله لاستئناف حياة جديدة متميزة في التفكير والتعبير والتدبير والمصير…
نعم، إن عبادة الحج، بما اكتنزت من خصوصيات تميزها عن سائر العبادات على كافة المستويات، رحلة للبحث عن تطوير الذات وتحسين الأداء وتنمية المهارات والخبرات، واستخلاص مكامن القوة وشحذ القدرات للتغيير المستمر والمثمر نحو الأفضل؛ ولا غرو في ذلك فهي عبادة تميزت بقدسية مكانها، وبأفضلية زمانها على سائر أيام الدنيا، واجتمعت فيها أمهات العبادة، من ذكر ودعاء وصيام وصدقة وطواف واعتكاف… فاتسعت لأضخم حدث ديني وتجمع بشري، متميز بلباس واحد في مكان واحد وزمان واحد، وقدمت للإنسان الزائر مناسك متميزة على مستوى الأهداف والمشاعر والشعائر؛ إذ تبتدئ بالتلبية، وهي إعلان العبودية الخالصة لله وبه يتميز تصور الحاج عن الأفكار الدخيلة والتصورات الملوثة، وكذا الطواف، وهو تميز بالحركة الواحدة التي تنسجم فيها عبادة الأكوان والإنسان؛ والسعي، وهو حافز للسعي نحو التفوق والتميز في الطاعة والالتزام، وترتقي هذه العبادة المتميزة بالوقوف بعرفات، وهي ترمز إلى الارتفاع والمعرفة، وتعد الإنسان ليكون إنسانا أعلى وأرقى عن كل ما هو أدنى، وتنتهي المناسك بذبح الهدي ورمي الجمار، وأفضل الهدي الأعظم جسما والأغلى ثمنا، وهو تميز، وفي ذبحه إقرار بتميز اسم الله على سائر الأسماء، وتنمية لمعرفته سبحانه في نفس الإنسان، وفي رمي الجمار مخالفة للشيطان، وهي تميز، وسيلته الالتزام بالمسؤولية وتقوية الإرادة لتجاوز مكامن الضعف في الذات…
وفي أثناء رحلة المشاعر والشعائر المباركة التي تكتنفها المشقة والتعب والصعوبات، يتدرب الحاج على مهارات جديدة لم يعتدها في حياته اليومية؛ مثل مهارة ضبط النفس إزاء مثيرات الشهوة والغضب والانتقام، والالتزام بالمواعيد وإدارة الوقت، وممارسة مهارة التفكير والتأمل ومراجعة النفس، وتجديد الطاقة الجسدية بالأداء الحركي من خلال الطواف والمشي وشرب ماء زمزم… ذلك فضلا عن تنمية الحاج لمهارة التواصل والترابط الاجتماعي، وتطويره للمعارف العلمية والدينية والخبرات والعلاقات الاقتصادية، التي تحفزها ضخامة التجمع في موسم الحج، وما يقتضيه من استنفار للقطاعات الحكومية المختلفة، والموارد البشرية المؤهلة، ووسائل شبكات التواصل والإعلام… والسعي إلى الارتقاء بها إلى مستوى قداسة المكان والحدث، من خلال تفعيل معايير الجودة والسرعة والنظافة، وتحسين مهارات التفويض الفعال وحل المشكلات؛ كالازدحام والافتراش، وعدم احترام اللوائح والأنظمة وقواعد السلامة والصحة والبيئة…
اعتبارا مما ذكر، فإن عبادة الحج تؤهل الإنسان لأن يكون الأفضل إدارة لذاته، وتنمية لمهاراته وقدراته، والأحسن توافقا وتواصلا مع غيره، الأمر الذي يرشح هذه العبادة لامتلاك مفاتيح صناعة التميز وتنمية القدرات وتدعيم المهارات بامتياز، وهي صناعة حديثة تضاعف بها الاهتمام اليوم لتطوير الأداء والرفع من الجودة وتحقيق الاختلاف والتميز عن المنافسين، على مستوى الأفراد ومنظمات الإدارة والأعمال والتجارة والخدمات، باعتبارها مدخلا أساسا لمواجهة المنافسة في عالم الميزة التنافسية التي أفرزتها الثورة العالمية الهائلة في المعرفة والتكنولوجيا والإنتاج والتسويق، فلا عجب أن تشتد حاجة الأمة الإسلامية إليها الآن، في ظل بحثها الجاد والدؤوب عن ملامح التميز في دينها وشخصيتها الإسلامية المعاصرة، بما يسهم في رفع تحديات العولمة والتغريب والإلحاق والتهميش عن قيمها وحضارتها، ويخدم أهدافها العليا في تربية الطاقة البشرية المؤمنة، وإعدادها لصناعة التنمية المجتمعية، واللحاق بحلبة السباق المحموم بين الأمم والحضارات، من أجل استعادة منصبها في الشهود الحضاري على الناس…
ذلك ما يستشرفه المسلمون والعقلاء المتعايشون على وجه هاته البسيطة، والتي امتلأت حروبا ودمارا وقطعا لأرحام بني الإنسان، وفقنا الله وإياكم وجميع أهل القبلة إلى حج أرقى ومجتمع أنقى وتآلف وتراحم أبقى …
دة.جميلة زيان