قال ابن القيم رحمه الله:…وَهَذَا مُطرد على أصل من أثبت الْمُنَاسبَة بَين اللَّفْظ وَالْمعْنَى كَمَا هُوَ مَذْهَب أساطين الْعَرَبيَّة، وَعقد لَهُ أَبُو الْفَتْح بن جني بَابا فِي الخصائص، وَذكره عَن سِيبَوَيْهٍ، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بأنواع من تناسب اللَّفْظ وَالْمعْنَى، ثمَّ قَالَ: وَلَقَد كنت بُرْهَة يرد عليّ اللَّفْظ لَا أعلم مَوْضُوعه وآخذ مَعْنَاهُ من قُوَّة لَفظه ومناسبة تِلْكَ الْحُرُوف لذَلِك الْمَعْنى ثمَّ أكشفه فأجده كَمَا فهمته أَو قَرِيبا مِنْهُ، فحكيت لشيخ الْإِسْلَام هَذَا عَن ابْن جني، فَقَالَ: وَأَنا كثيرا مَا يجْرِي لي ذَلِك، ثمَّ ذكر لي فصلا عَظِيم النَّفْع فِي التناسب بَين اللَّفْظ وَالْمعْنَى ومناسبة الحركات لِمَعْنى اللَّفْظ، وَأَنَّهُمْ فِي الْغَالِب يجْعَلُونَ الضمة الَّتِي هِيَ أقوى الحركات للمعنى الْأَقْوَى، والفتحة الْخَفِيفَة للمعنى الْخَفِيف، والمتوسطة للمتوسط؛ فَيَقُولُونَ: عزَّ يعَزُّ، بِفَتْح الْعين، إِذا صلب، وَأَرْض عزاز: صلبة. وَيَقُولُونَ: عزَّ يعِزُّ، بِكَسْرِهَا، إِذا امْتنع، والممتنع فَوق الصلب، فقد يكون الشَّيْء صلبا وَلَا يمْتَنع على كاسره. ثمَّ يَقُولُونَ: عزَّه يعُزُّه، إِذا غَلبه، قَالَ الله تَعَالَى فِي قصَّة دَاوُد : وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب، وَالْغَلَبَة أقوى من الِامْتِنَاع، إِذْ قد يكون الشَّيْء مُمْتَنعا فِي نَفسه متحصنا من عدوه وَلَا يغلب غَيره، فالغالب أقوى من الْمُمْتَنع، فَأَعْطوهُ أقوى الحركات، والصلب أَضْعَف من الْمُمْتَنع، فَأَعْطوهُ أَضْعَف الحركات، والممتنع الْمُتَوَسّط بَين المرتبتين فَأَعْطوهُ حَرَكَة الْوسط.
وَنَظِير هَذَا قَوْلهم: ذِبْحٌ، بِكَسْر أَوله، للمحل الْمَذْبُوح، وَذَبْحٌ، بِفَتْح أَوله، لنَفس الْفِعْل، وَلَا ريب أَن الْجِسْم أقوى من الْعَرَض، فأعطوا الْحَرَكَة القوية للقوي والضعيفة للضعيف. وَهُوَ مثل قَوْلهم: نِهْبٌ وَنَهْبٌ، بِالْكَسْرِ للمنهوب وبالفتح للْفِعْل. وكقولهم: مِلْء ومَلْء، بِالْكَسْرِ لما يَمْلَأ الشَّيْءَ، وبالفتح للمصدر الَّذِي هُوَ الْفِعْل. وكقولهم: حِمْل وَحَمْل، فبالكسر لما كَانَ قَوِيا مرئيا مُثقِلًا لحامله على ظَهره أَو رَأسه أَو غَيرهمَا من أَعْضَائِهِ، وَالْحَمْل بِالْفَتْح لما كَانَ خفيفاً غير مُثقِل لحامله، كحَمل الْحَيَوَان وَحَمل الشَّجَرَة بِهِ أشبه، ففتحوه. وَتَأمل كَونهم عكسوا هَذَا فِي الحِبّ والحُبّ، فَجعلُوا المكسور الأول لنَفس المحبوب، ومضمومه للمصدر، إِيذَانًا بخفة المحبوب على قُلُوبهم ولطف موقعه فِي أنفسهم وحلاوته عِنْدهم، وَثقل حمل الحُبّ ولزومه للمُحبّ كَمَا يلْزم الْغَرِيم غَرِيمه، وَلِهَذَا يُسمّى غراما، … فَكَانَ الْأَحْسَن أَن يُعْطوا الْمصدر هُنَا الْحَرَكَة القوية، والمحبوب الْحَرَكَة الَّتِي هِيَ أخف مِنْهَا. وَمن هَذَا قَوْلُهم: قَبْضٌ، بِسُكُون وَسطه، للْفِعْل، وَقَبَضٌ، بتحريكه، للمقبوض، وَالْحَرَكَة أقوى من السّكُون، والمقبوض أقوى من الْمصدر… وَتَأمل قَوْلهم: دَار دورانا، وَفَارَتْ الْقِدْر فورانا، وغلت غليانا، كَيفَ تابعوا بَين الحركات فِي هَذِه المصادر لتتابع حَرَكَة الْمُسَمّى، فطابق اللَّفْظُ الْمَعْنى. وَتَأمل قَوْلهم: حَجَرٌ وهَواء، كَيفَ وضعُوا للمعنى الثقيل الشَّديد هَذِه الْحُرُوف الشَّدِيدَة، وَوَضَعُوا للمعنى الْخَفِيف هَذِه الْحُرُوف الهوائية الَّتِي هِيَ من أخف الْحُرُوف…
وَمثل هَذِه الْمعَانِي يَسْتَدْعِي لطافة ذهن ورِقَّة طبع، وَلَا تتأتَّى مَعَ غلظ الْقُلُوب والرضى بأوائل مسَائِل النَّحْو والتصريف دون تأملها وتدبرها، وَالنَّظَر إِلَى حِكْمَة الْوَاضِع ومطالعة مَا فِي هَذِه اللُّغَة الباهرة من الْأَسْرَار الَّتِي تدِقّ على أَكثر الْعُقُول. وَهَذَا بَاب يُنَبّه الْفَاضِل على مَا وَرَاءه وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نور.
وَانْظُر إِلَى تسميتهم الغليظ الجافي بالعُتُلّ والجَعْظَرِيّ والجَوَّاظ ،كَيفَ تَجِد هَذِه الْأَلْفَاظ تنادي على مَا تحتهَا من الْمعَانِي، وَانْظُر إِلَى تسميتهم الطَّوِيل بالعَشَنَّق، وَتَأمل اقْتِضَاء هَذِه الْحُرُوف ومناسبتها لِمَعْنى الطَّوِيل، وتسميتهم الْقصير بالبُحْتُرِ، وموالاتهم بَين ثَلَاث فتحات فِي اسْم الطَّوِيل، وَهُوَ العشنَّق، وإتيانهم بِضَمَّتَيْنِ بَينهمَا سُكُون فِي البُحْتُر، كَيفَ يَقْتَضِي اللَّفْظ الأول انفتاح الْفَم وانفراج آلَات النُّطْق وامتدادها وَعدم ركُوب بَعْضهَا بَعْضًا، وَفِي اسْم البُحْتُر، الْأَمرُ بالضد.
وَتَأمل قَوْلهم: طَال الشَّيْءُ فَهُوَ طَوِيل، وَكَبِر فَهُوَ كَبِير، فَإِن زَاد طوله قَالُوا طوَالًا وكُبَّارا، فَأتوا بِالْألف الَّتِي هِيَ أَكثر مدّا وأطول من الْيَاء فِي الْمَعْنى الأطول، فَإِن زَاد كِبَرُ الشَّيْء وَثَقُلَ موقعه من النُّفُوس ثقَّلوا اسْمه، فَقَالُوا :كُبّارًا، بتَشْديد الْبَاء. وَلَو أطلقنا عنان الْقَلَم فِي ذَلِك لطال مداده واستعصى على الضَّبْط…
أ.د. عبد الرحيم الرحموني