الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلهِ رب العالمين، الملك، الحق، المبين، نَحْمَدُهُ، ونشكره، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، سبحانه، سبحانه، تبارك اسمه، وتعالى جده، ولا إله غيره، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا محمدا عبده ورسوله، ومصطفاه وخليله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا أيها المؤمنون والمؤمنات: لَا شَيْءَ أَضَرَّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنَ الإِعْرَاضِ عَنِ اللهِ تَعَالَى بَعْدَ الإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَلَا خَسَارَةَ تَعْدِلُ خَسَارَةَ مُفَارِقِ الطَّاعَاتِ بَعْدِ إِلْفِهَا، وَهَاجِرِ المَسَاجِدِ بَعْدَ لُزُومِهَا، وَتَارِكِ المَصَاحِفِ بَعْدَ مُرَافَقَتِهَا. وَكُلّ رَمَضَانَ يَنْقَضِي يَكْثُرُ بعده ذَلِكَ فِي النَّاسِ، فَيُفَرَّطُ فِي الْفَرَائِضِ، وَتُهْجَرُ المَصَاحِفُ، وَيَضْعُفُ ارْتِيَادُ المَسَاجِدِ، فَتَقْسُو الْقُلُوبُ بَعْدَ لِينِهَا، وَهَذَا الْأَمْرُ يَشْكُوهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، لذلك كانت الْحَاجَةُ إِلَى تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ بَعْدَ رَمَضَانَ ضرورية وملحة، كَمَا أَنَّ التَّذْكِيرَ بِكَيْفِيَّةِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ فِي الطَّاعَاتِ بَعْدَ رَمَضَانَ.
فَمِنْ طُرُقِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ: تَعْظِيمُ اللهِ تَعَالَى وَدَوَامُ مُرَاقَبَتِهِ؛ فَالمُعَظِّمُ لِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ لَنْ يَنْكُثَ عَهْدَهُ، وَلَنْ يَنْقُضَ غَزْلَهُ، وَلَنْ يُخْلِفَ وَعْدَهُ، وَسَيَتَعَاهَدُ قَلْبَهُ، وَيُزَكِّي نَفْسَهُ. وَالمُرَاقِبُ لِرَبِّهِ لَنْ يَعُودَ لِلْمَعَاصِي بَعْدَ ذَهَابِ رَمَضَانَ لِعِلْمِهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَرَاهُ وَيطَّلِع عَلَى عَمَلِهِ ويعرف سره ونجواه ونيته وقصده وغايته؛ قال تعالى: «أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى» (العلق: 14)، وقال سبحانه: إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (الأحزاب: 54)، وقال عز من قائل: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (غافر: 19)، وقال رسول الله : «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». فَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ تَكُونُ بِمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ مِنْ أَسْبَابِ لَذَّةِ الْإِيمَانِ.
وَمِنْ طُرُقِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ: تَجْدِيدُ الْإِيمَانِ وَزِيَادَتُهُ، فالإيمان يزيد وينقص، ويتجدد ويبلى لذلك أوصانا سينا محمد بتجديد الإيمان، وإنما يتجدد الإيمان بتعهدِ القلب ومواصلة تطهيره وتنقيته، والمداومة على تخليته وتحليته، وَإنما يزكو القلب ويعمر ويطهر بِتَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى، وَالْإِيمَانِ بِهِ، وتوحيده، وَدَوَامِ مُرَاقَبَتِهِ، وَكَثْرَةِ ذِكْرِهِ، وَإِذَا زَكَى الْقَلْبُ زَكَى حَامِلُهُ. فَتَجْدِيدُ الْإِيمَانِ، وَتَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ تَتَزَكَّى بِهِ الْقُلُوبُ، وتسمو النفوس والعقول في مدارج اليقين، وتصلح أعمال المسلم وسلوكاته. وَقَدْ قَالَ مُوسَى فِي دَعْوَتِهِ لِفِرْعَوْنَ وَهُوَ يَدْعُوهُ لِلْإِيمَانِ: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تزَّكّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (النازعات: 18 – 19).
وَمِنْ طُرُقِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ: دوام إقامة الصلوات والْمُحَافَظَةُ عَلَيها، وأداؤها في أوقاتها مع الجماعة، وَالتَّبْكِيرُ لِلْمَسَاجِدِ، مَعَ الْإِتْيَانِ بِنَوَافِلِ الصَّلَوَاتِ كَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، وَصَلَاةِ الضُّحَى، وَقَدْرٍ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَالْتِزَامِ الْوِتْرِ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا زَكَا بِهَا قَلْبُهُ؛ لِدَوَامِ صِلَتِهِ بِاللهِ تَعَالَى، وَقَدِ اقْتَرَنَ ذِكْرُ التَّزْكِيَةِ بِالصَّلَاةِ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (الأعلى: 14 – 15)، فَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَكْثَرَ صَلَاةً؛ كَانَ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُ.
وَمِنْ طُرُقِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ: الإنفاق في سبيل الله، وإطعام الفقراء، ومدّ يد العون للفقراء والمساكين، وقضاء حوائج المحتاجين، والتوسيع على المعسرين، والتنفيس على المهمومين، والتفريج على المكروبين. فالإنفاق في سبيل الله صفة من صفات المتقين، قال تعالى: ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، وسبب من أسباب الغنى والزيادة في المال والمضاعفة في الرزق، قال تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم (البقرة: 261)، وقال عز من قائل: يمحق الله الربا ويربي الصدقات (البقرة: 276).
فاللهم اجعلنا من عبادك الصالحين وجندك المخلصين الذين يؤمنون بك ويوحدوك ويعظمونك ويقدرونك حق قدرك، ويعملون في سبيلك، اعترافا بفضلك وجودك ونعيمك وإحسانك، وطمعا في رحمتك ومغفرتك وجنتك، وشوقا في لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، ويرحم الله عبدا قال آمين.
الخطبة الثاني:
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبي الرحمة والهدى ورسول السلام، سيدنا محمد حبيب الحق وخير الأنام وعلى آله وصحبه الكرام، وبعد عباد الله: إن الشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم في العروق، وَمِنْ أسباب التغلب على نزغاته ووساوسه ومكره وحيله الإكثار من الصيام، لأن الصَّوْم يُضَيِّقُ مَجَارِيَ الدَّمِ عَلَى الشَّيْطَانِ، وَيَقْمَعُ شَهْوَةَ صَاحِبِهِ؛ وَلِذَا أَمْسَكَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّائِمِينَ فِي رَمَضَانَ عَنْ شَهَوَاتِهِمْ لمَّا شُغِلُوا بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ، وَلَازَمُوا المَسَاجِدَ وَالمَصَاحِفَ، وَوَجَدُوا أَثَرَ ذَلِكَ عَلَى قُلُوبِهِمْ؛ ولهذا الغرض يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُوَاصِلَ الصِّيَامَ بَعْدَ رَمَضَانَ بَدْءًا بِسِتِّ شَوَّالَ، ثُمَّ مَا تَيَسَّرَ مِنْ نَوَافِلِ الصَّوْمِ؛ لِيَبْقَى عَلَى صِلَةٍ بِالصِّيَامِ، ولتمتد تَزْكِيَتُهُ لِقَلْبِهِ بَعْدَ رَمَضَانَ.
وَمِنْ طُرُقِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ تَزْكِيَةٍ، وَالنَّبِيُّ كَانَ يُزَكِّي أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بِسُوَرِهِ وَآيَاتِهِ، فَيَتْلُوهَا عَلَيْهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِحِفْظِهَا وَتِلَاوَتِهَا، وَيُرَغِّبُهُمْ فِي ذَلِكَ؛ وَلِذَلك قُرِنَ فِي الْقُرْآنِ بَيْنَ التَّزْكِيَةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ بِبَعْثَةِ سَيِّدِ الْأَنَامِ ، قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ (الجمعة: 2)، وَهَذِهِ التَّزْكِيَةُ النَّبَوِيَّةُ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ الكريم كَانَتِ اسْتِجَابَةً لِدَعْوَةِ الْخَلِيلِ حِينَ دَعَا قَائِلًا: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمُ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ (البقرة: 129).
وَمِنْ طُرُقِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ: مُصَاحَبَةُ الْأَخْيَارِ وَمُجَالَسَتُهُمْ؛ لِيُنَافِسَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَيَزِيدَ إِيمَانهُ بِطِيبِ مَجَالِسِهِمْ وَحَدِيثِهِمْ، وَيُجَانِبَ الْأَشْرَارَ وَالمُتَثَاقِلِينَ عَنِ الطَّاعَاتِ؛ لِأَنَّ مُجَالَسَتَهُمْ شَرٌّ وَبَلَاءٌ، وَقَدْ جَمَعَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْرَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (الكهف: 28).
وَمِنْ طُرُقِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ: الدُّعَاءُ؛ فَإِنَّ الْقُلُوبَ بِيَدِ اللهِ تَعَالَى يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَيَمْلَؤُهَا مَا شَاءَ، قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ (الأنفال: 24)، وقال تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ (النور: 21)، فَاسْأَلُوا الله سُبْحَانَهُ طهارة قَلوبكم وَنقاء سريرتكم، وصلاح أعمالكم، وحسن خاتمتكم، وقبول طاعاتكم، واسألوه حِفظه لكم، ورعايته لشؤونكم، وعنايته بأحوالكم، وولايته لأموركم، وَمِنَ الدُّعَاءِ النَّبَوِيِّ فِي سُؤَالِ التَّزْكِيَةِ: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
فاللهم إنا نسألك حبك وعطفك وحنانك ولطفك، اللهم ارزقنا رحمتك ومغفرتك، ولا تحرمنا رعايتك وعنايتك وولايتك، اللهم طهر قلوبنا واستر عيوبنا واغفر ذنوبنا واختم بالصالحات أعمالنا، واجعل الجنة هي دارنا ومأوانا وقرارنا.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم ارزقنا حلاوة الإيمان، ولذة الإسلام، ومتعة الإحسان، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي المختار وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار والتابعين الأبرار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم العرض عليك يا عزيز يا غفار.
ذ. إدريس اليوبي